الشاعر بين منفيَيْن: نوري الجرّاح ونجوم الحِداد الغامضة

15 يوليو 2022
نوري الجرّاح
+ الخط -

"ألمٌ غيرُ فلسفي". بهذه العبارة حاول سالار عبده، الكاتب والروائي الإيراني، أن يُقدّم للجمهور الغربي المأساة التي تشكّل محور المجموعة الشعرية "قارب إلى ليسبوس". لقد تعرّضت سوريّة، على مدى عشر سنوات، لتشوّه لا هوادة فيه بسبب الحرب التي شنّها نظام الأسد على شعبه. الشعب الذي اختفى من ذلك البلد. من الصعب تخيُّل ما يعنيه أن يخسر بلد ما أكثر من نصف سكّانه، موتاً أو فراراً، داخل أو خارج حدوده.

جزيرة ليسبوس هي إحدى نقاط التماس الأولى مع أوروبا، وغالباً ما اتّسم استقبالُها للنساء والأطفال والرجال ببرودة شديدة. كيف يمكنُنا أن نتخيّل أنّنا فقدنا شبكة الأمان، وإن كانت متزعزعةً، ولكنّها على أيّ حال أساسيةٌ، أي المجتمع الذي استضافنا مذ أن خُلقنا؟ كيف يمكننا أن نتخيّل قتل وتعذيب وترهيب أفراد عائلاتنا؟ كيف يمكننا أن نتخيّل الحاجة لبيع كلّ ما تبقى لدينا لنرسوَ على شاطئ بما يحجبُ أجسادنا فحسب؟ وبأيّ شجاعة يمكنُنا أن نقول إنّ هناك شيئاً فلسفياً في ألم أولئك الذين يعيشون هذه المأساة؟

إلى كلّ هذا يضيف الشاعر السوري نوري الجرّاح حياة المنفى. منفاه الذي يدوم منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهلية بفترة طويلة تقارب الأربعة عقود. وُلد نوري الجرّاح في دمشق عام 1956، وهو الآن أحدُ أهمّ الأصوات الشعرية في سورية والعالم العربي. عاش حتّى مطلع شبابه في هذه المدينة، حيث بدأ الكتابة والنضال السياسي. ثمّ استقر في لندن عام 1986، ونشر تباعاً مجموعات شعرية مختلفة، وأسّس العديد من المجلات الأدبية، ويدير حالياً سلسلة مهمّة من أدب الرحلات. المنفى بالنسبة للجرّاح مُلحقٌ لعجز المسافة:

"لَمْ أكنْ في دمشق عندما جاءَ الزلزال
لَمْ أكنْ في جبلٍ ولَمْ أكنْ في سهلٍ
عندما ترجَّفتِ الأرضُ وتشقّقت صورٌ هي والهواء
كانت يدي الهامدة
تنبضُ
في أرضٍ أُخرى؛
رعدةٌ خفيفةٌ سرتْ في جسدي
وضاءَتْ يرقةٌ في صِدْغي الجاف
أهي الرسالةُ
تسقطُ
في بريدي
أمِ الربيعُ يتقلَّبُ في أرضٍ بعيدة.

لَمْ أكنْ في دمشق
لَمْ أكنْ في شارع
ولا في متجرٍ
لَمْ أكنْ في محطّةٍ
ولا في شرفةٍ تطلُّ على قطارٍ
لَمْ أكنْ مُسرعاً 
ولا مبطئاً
أَبْعَدَ من يَدي، كُنْتُ، ومِنْ عيني الغريقةِ في الزمن
راقداً على قلقٍ في ترابِ الموعد،
ويدي تنزفُ".

لا ننصف الكتاب باعتباره عملاً موجّهاً للشعب السوري فحسب

إنّ انتفاء المنفى يتقارب مع ذلك الناجم عن الدمار. من هنا يتجلَّى، لامعاً ومتوهّجاً، وعيُ الألم، وبالتالي، لا ينفصل عنه إدراك التاريخ. هذا يذكّرنا بِدَهْشَةِ أطروحات "حول فلسفة التاريخ" لفالتر بنجامين: "الدهشة لأن الأشياء اللا فلسفية التي نعيشها لا تزال ممكنة في القرن العشرين. إنّها ليست في بداية أي معرفة أُخرى غير هذه: أن فكرة التاريخ التي تنبثق منها ليست مستدامة". وهكذا فإن "قارب إلى ليسبوس" هو نشيد للمضطهدين ينهار الزمن والأسطورة في حدّته الغنائية. في كل لحظة نحن في ليسبوس، في كل اللحظات التي عاشتها ليسبوس وكل مكان هو سورية أو اليونان، يعبرها الآلهة واللاجئون أو الشعراء والأشباح.

صدرت هذه المجموعة الشعرية عن "دار المتوسط للنشر" عام 2016 باللغة العربية، وتُرجِمت، بالإضافة إلى الإيطالية بتوقيع كاصد محمد عن "دار لاركولايو" (2018)، والفرنسية والإنكليزية والتركية، وبمغزى ذي دلالة، إلى اللغة اليونانية. وقد كُتبت هذه الأشعار في أعقاب أزمة اللاجئين عام 2015 في ليسبوس، حيث زار شاعرنا الجزيرة شخصياً في العام ذاته. كما كتبت روث باديل: "كانت جزيرة ليسبوس، حتى عام 2015، لمّا وصلها ما يقرب من 379000 لاجئ، بمعدّل 3300 لاجئ يومياً، تشتهر بثلاثة أشياء: بغابتها المتحجّرة، وأفضل أوزو (عَرَق) في اليونان والشعر، فكما يعلم الجميع، ليسبوس هي موطن الشاعرة سافّو". 

الصورة
نسخة إيطالية

"تعالوا في عتمة ليسبوس، أيها السوريون الخارجون من لوح الأبجدية المكسور"، تقول سافّو في القصيدة الأولى التي تحتلّ الجزء الأكبر من المجموعة الشعرية. إنهم لاجئو اليوم وفي الوقت نفسه ضاربون في عمق الزمن: لقد خرجوا من "اللوح" بالضبط، اللوح الطيني الذي شهد ولادة الكتابة في بلاد ما بين النهرين. الماضي العريق لسوريا هو أيضا ماضينا. سافّو تتوجّه إلى السوريين الذين يأتون من الأرض ذاتها التي، وفقاً للأسطورة اليونانية، اختطف زيوس منها أوروبا (عروبة) الجميلة، والذي تحوّل من أجلها إلى ثور. سيصل قدموس، شقيقُها، بحثاً عنها إلى بلاد الإغريق دون أن يجدها، لكنّه سيمنحهم الكتابة وسيؤسّس طيبة، مدينة المأساة بامتياز. 

لذلك، لن يُنصَف هذا الكتاب إذا نُظر إليه كمجرد عمل موجّه للشعب السوري فحسب. إن نفث شعر نوري الجرّاح هو العالم، ووحيه هو البحر الأبيض المتوسط. البحر الأبيض المتوسط هو ذلك الأتون الذي ينصهر فيه الزمن والذي يغيّر مغزى التاريخ.

البحر الأبيض المتوسط، ذاك الذي يحتويه هذا الكتاب، موجود في فسحات التاريخ الخاوية، في الحرب، في الهروب من الحرب، بين القبور غير المرئية للغرقى، بين الكوابيس وشعور الناجين بالذنب، في الحدائق الضائعة، في الريح العبقة برائحة الزعتر، في التّوق، وعلى أعتاب المنازل القريبة والبعيدة أبداً، في الحبّ المُبتئس، في الليالي بانتظار ضوء الشمس التي تنير باعتباط كلّ شيء، في إشكالية البحّارة، في السفن التي لا تُبحر والآلهة المخاتلة، في التاريخ الذي يشكّل نفسه في تعاويذ يمكن كسرها، لكنّها تتحوّل إلى لعنات لا تُمحى مثل البقايا البشرية التي لُفِظَتْ على ضفاف ضمائرنا.

الصورة
لاجئون سوريّون وأفغان يصلون شواطئ جزيرة ليسبوس اليونانية، 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 (Getty)
لاجئون سوريّون وأفغان يصلون شواطئ جزيرة ليسبوس اليونانية، 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 (Getty)

لقد واتاني الحظّ لمقابلة نوري الجرّاح قبل عامين في "مهرجان الشعر العربي" في ميلانو. مدينة يبدو أن البحر الأبيض المتوسط شعَرَ بها على مضض لعدّة قرون، مع مقتها الموروث وغير المعلن لزيت الزيتون والعمّال المهاجرين من الجنوب، والتي تجد نفسها الآن ترحّب بهذا البحر كما لو كان، على النقيض من ذلك، حلماً تمنّته دائماً. بمجرّد أن وصلت إلى قيرغيزستان، بينما كنّا نتكلّم عن الصعوبات التي تواجهنا نحن الإيطاليين في التعوّد على اﻠ"خوميس"، حليب الفرس المخمّر في أزْقاقٍ مصنوعة من معدة الحيوان، أوضح لي أحد السكان المحليين أن الصعوبة ربما تماثل صعوبة التعوّد على "زيت الزيتون". 

بينما ميلانو تريد أن تتخيّل نفسها في وقت ما معتادة على زبدة أوروبا ذات الأهمية القصوى. أوروبا التي تقوم بحساباتها السياسية بالاعتماد على أكثر ناخبيها عنصرية ورجعية، أوروبا التي تخلّت عن عدد مرعب من البشر في البحر. أوروبا نفسها التي خيّبت آمال العالم هي أوروبا التي لم تستطع تحمّل زيت الزيتون والتي تحبّه كثيراً الآن، لأنه مفيد جداً للصحة، ولأنها تستحضر به العطلات الصيفية والحياة الصاخبة لشعوب البحر الأبيض المتوسط.

"شُكْراً لِأُورُوبَا السَّعِيدَةِ
بِأَسَاوِرِهَا
لَمَعَتْ لِأسْنَانِ الْعَبِيدِ
وَيَداهَا المُغَلَّلَتِانِ بالْأَفْكَارِ
تَنْزِفَانِ
ذَهَبَاً وَفِضَّة"ْ.

قبل أشهر قليلة من اندلاع جائحة كوفيد، عاد نوري الجرّاح لزيارة ميلانو. بعد فترة طويلة من تناول طعام العشاء، انتهى بنا الأمر للحديث عن الثورة. قال: "على عكس أوروبا، لا يزال هناك حديث عن الثورة في أصقاع أخرى كثيرة من العالم". سألته: "ما الذي حدث، حسب رأيك، ابتداءً من الثمانينيات، عندما أصبحت الثورة، على مرّ السنين، شيئاً يقف بين النسيان والعبثية والتابوهات؟ أصبحت كلمة ثورة...". ورحتُ أبحث عن الكلمة المناسبة، لكنني لم أجدها. فهرع لنجدتي قائلاً: "ثم حلّ زمن الأجساد".

لقد أدهشتني هذه الصورة. زمن الأجساد، أي عندما قلب الأوروبيون الثورة ضدّ أنفسهم وتمادوا في رعاية أجسادهم. كلما اختفت الثورة من الخطاب العام، زادَ انتشار الصراع الداخلي الكئيب، والذي يتلخّص في شعار البحث عن الشكل المادي المثالي للفرد: تحدي الذات. إنّه جهد جماليٌّ سطحي فحسب، ولكنّه على النقيض من ذلك، هو أيديولوجي قاتم كئيب، ناهيك أنه مكرّس بحكم التعريف للهزيمة، حيث الفوز بمثابة الخسارة أيضاً؛ خسارة ضدّ ما كنت عليه.

هذا الكتاب مليء بالأجساد المُحتضَنة، بأجساد جميلة لأنها مليئة بجمال يتحدّى الألم، بأجساد لا تستنفد نفسها في الكفاح ضدّ نفسها، ولكنّها تكافح من أجل العيش ضد الموت:

"أيُّهَا السُّورِيِّوُنَ الَألِيمُونَ، السُّورِيِّوُنَ الوَسِيمُونَ، السُّورِيِّوُنَ الَأشِقاءُ الهَارِبُونَ مِنَ المَوتِ، أَنْتُم لَا تَصِلُوَن بالقَواربِ، ولَكِنَّكُمْ تُولَدُونَ عَلَى الشَّواطِئِ مَعَ الزَّبَدِ.
تِبْرٌ هَالِكٌ أنتم، تِبْرٌ مَصْهُورٌ وَضَوعٌ مُصَوَّحْ".

الصورة
نسخة عربية

عندما يتعلّق الأمر بجسد الضحايا، فإنّ الجسد نفسه هو الذي يصبح صوتاً. وهكذا، في الجوقة الملحمية التي تتخلّل الكتاب بأكمله، هناك أيضاً صوت الرجل المقتول في الحرب، الذي يغنّي جسدُه، لكنّه لا يسمّي "جثث" أطفاله الذين قُتلوا تحت القنابل، وطمرتهم الأنقاض، "حجاب مايا" الذي يخُفي حقيقة موتهم المروّع:

"لا ‬بيتَ ‬لي ‬لأقفَ ‬بالبابِ ‬وأدعوكَ ‬إلى ‬البيت
لا ‬نافذةَ ‬لأهتدي
لو ‬رجعتُ ‬من ‬الموت
لا ‬ضوءَ ‬
في
نافذةٍ
ولا ‬قمرَ ‬ليلٍ ‬في ‬شجرة.‬
الهواءُ ‬الذي ‬ملأ ‬رئتي ‬برائحةِ ‬الحقول
أفعمَ ‬جسدي ‬برائحةِ ‬الموتْ.‬
‬الصور ‬تحمل ‬المخارز ‬وتهجم ‬على ‬عينيَّ
لا ‬بيت
ولا ‬ستائر
ولا وسادة نائم في سرير، لا سرير.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬


‬‬‬‬‬‬
لا ‬بيتَ ‬لي، ‬ليكونَ ‬لي ‬جارٌ
لا ‬أمَّ ‬ولا ‬أُختَ ‬ولا ‬أَطفالْ
لا ‬أصواتَ
- ‬مهما ‬كانتْ ‬خفيفةً - ‬ في ‬جوار
كلُّ ‬ما ‬أسمعه ‬الآن ‬من ‬بعيد
ضجّة ‬جرافات ‬وهي ‬ترفع ‬الحقائق
عن ‬أطفالي ‬المُكدّسين ‬هم ‬والموت
تحت ‬الأنقاض".

‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬أو أن الجسد هو جسد سورية كلّها؛ جسد مكتوب، جسدٌ يتحوّل إلى لوح طيني، جسد خانته الأمم والمضاربون والسماء نفسها التي هي في هذه الأيام وفي الوقت نفسه قديمة جداً:

"الأممُ ‬طعنتْ ‬ظهركِ ‬وخاصرتكِ،
نحركِ ‬وكتفكِ
الأممُ، ‬بخناجرَ ‬باسمةٍ،
كتبتْ ‬أسماءَها ‬في ‬جسدكِ ‬المختلج ‬تحت
سماء ‬غادرة.‬
أسواقُ ‬الأممِ ‬تغصُّ ‬بلآلئكِ ‬وأسمائكِ ‬المسروقة، ‬وبالذين ‬نجَوا ‬من ‬الطوفان".‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

دهشة الجرّاح ليست فلسفية، إنها دهشة الجسد. من خلال هذه الدهشة، يجعل الصوت الشعري يهزّ لغز العنف. المعاناة من العنف تعني التخلّي عن الوجود الذي، منذ تلك اللحظة فصاعداً، يتشوّه. التشوّه هو ما يخشاه الكائن الحيّ ربّما أكثر من الموت:

"أَرْسَلْتُ شَقِيقَاتِيَ الْجَارَاتِ يَحْمِلْنَ المَاءَ، ذَهَبْنَ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ إِلَى الشَّاطِئِ، وَرَجَعْنَ بِصَبِيٍّ قُلْنَ إِنَّهُ نَائِمٌ، وَلَمَّا مَدَدْنَهُ فِي المِلَاءَةِ، رَأَيْنَاهُ بِلَا وَجْهٍ".

هذا الوجه الغائب يدعونا إلى الاهتمام بالدهشة من أن بعض الأشياء في قرننا ما زالت ممكنة. أكثر من مرّة، متحدثاً معه، عادت مسألة أدورنو حول إمكانية عودة الشعر بعد أوشفيتز. على الرغم من إدراكِه أنّ أدورنو نفسه قد تراجع عن هذا الموقف، إلا أن الجرّاح كان دائماً مصدوماً حقاً من فكرة أن شخصاً ما تخيّل أنه يمكن اعتبار الشعر بربرياً. بالمقابل، نحن مدعوون إلى الشعر للتعويض عن التشوّه، كما يفعل الشخص الذي ينقّي سَمَعَه عندما يفقد بصره.

البحر المتوسط أتونٌ ينصهر فيه الزمن ويغيّر معنى التاريخ

لذلك، لن يُنصَف هذا الكتاب إذا استُبْعِد إدراك البعد الفلسفي منه. إنّ عدم استيعاب هذا البُعد سيمنعنا من رؤية هذا الجانب التعويضي في شعره. بالتأكيد نحن لا نتحدّث عن الفلسفة هنا كممارسة تحليلية للفكر، ولكن عن فيلسوف شاعري ينظر إلى الكون من الجسد والبحر والتاريخ وبهذه الطريقة يوسّع إمكانية التجربة ضد تشوّه العنف.

الكون موجود منذ العنوان الفرعي لهذا الكتاب: مرثية بنات نعش. بنات نعش عبارة عن كوكبة، أو بشكل أدق، مجموعة نجمية، أي مجموعة من النجوم التي هي في حدّ ذاتها جزء من كوكبة. يُعرف في اللغة الإيطالية باسم مجموعة الدب الأكبر.
من الشائع في الثقافة الشعبية العربية، كما كتب كاصد محمد في مقدّمة الطبعة الإيطالية من الكتاب، أسطورة رجل يُدعى نعش، قُتل على يد سُهَيْل، الاسم العربي للنجم الجنوبي "كانوبو". قررت بنات القتيل السبع عدم دفن والدهم ما لم يُنتقم له. أربع منهن حملن التابوت، تتبعهن الثلاث الأخريات. وفي أثناء هذه المطاردة، تتحول "بنات نعش" والقاتل جميعاً إلى نجوم، وما القصيدة التي نقرأها سوى مرثية لهنّ. هناك شيء خفي وغريب، وفلسفي لا محالة في ترنّم الحرب والنزوح من خلال تكريس قصيدة "لكوكبة من النجوم".

"تَرَقَّبْتُ فِي فَلَكِ الدَّبْرَانِ طَالِعي،
تَرَقَّبْتُ القَوسَ الَّتِي أَطْلَقَتِ السَّهْمَ، جَازَ الغَامِضَ، وأَصَابَ كَاحلَ القَدَرِ...
وَفِي حَافَّةِ الْجُرْفِ،
عِنْدَ صَرْخَةِ المُنْتَحِر
تَرَقَّبْتُ ظُهُورَ بَنَاتِ نَعْشٍ...
رَأَيتُ شُهُباً
تَسَّاقَطُ،
وَظَنَنْتُ البَرِيدَ بَرِيدِي".

الدَّبْرَانِ، العملاق الأحمر الذي هو "عين" كوكبة الثور، هو أيضا المطارد (الدَّبْرَانِ)، ولكن السعي هنا، بالمقابل، من أجل هوى الثُّرَيَّا، التي تُشكّل كتف الثّور السماوي والتي ترتفع أمام هذا النجم. الصوت الشعري، بالانتظار وهو يتطلّع إلى السماء من منفاه، يتوقّع شيئاً ذا صلة بمستقبله.

إن لم يكن للشعر الفرنسي تأثير كبير على الجرّاح، فمن المؤكّد أنّ مالارميه هو استثناء. ثم يتحوّل الانتظار إلى "رمية نرد"، إنه توّقع السهم الذي يتغلّب على الارتباك المُظلم ويجرح كعب القدر الذي لا مفرّ منه، كما في أسطورة أخيل الذي لا يُقهر. فالغامض ما هو مبهم وغير محدّد، والجذر "غمض" له علاقة بإغلاق العين. من ناحية أُخرى، فإنّ جذر "قدر"، مرتبط بالقوة والقدرة على فعل شيء ما، ولكن أيضاً بالقياس والأمر الإلهي. لذلك، "قدر" يعارض اللامبالاة الغامضة ﻠـ"غمض"، المصير المحدّد مسبقاً والذي، على هذا النحو، لا يرحم.

وبالتالي، فإن التوقّع الذي نتحدّث عنه هو ضربة من النجوم تقضي على كلّ من الصدفة والحتمية، وهو أمر يخرج من الحدود المأساوية والمتناقضة التي تتغذّى عليها الحرب. كلّ هذا تتبعه هاوية تدمير الذات وفي هذا الخلل نصلُ إلى انتظار "بنات نعش". لكن الانتظار يبدو عبثاً، تلك المسافة بين العالم الذي تأتي منه قصص النجوم هذه وأرض المنفى حقيقية ولا مفرّ منها: أمام أعين صوت الشاعر لا يوجد سوى شهب، وربّما رسائل خادعة.

توضّح لنا النجوم الغامضة للدبّ كيف تخترق شظايا الحاضر ضميرَ أولئك الذين يعيشون المأساة ويتعثّرون في ماضٍ لا يُمحَى. الماضي يتكرّر بلا انقطاع: ماذا نفعل بهذا العنف؟ إن التفكير في هذا يصبح أمراً ملحّاً: ما يحدث في سورية وللاجئين ليس شيئاً عفا عليه الزمن تاريخياً، ولا حاضراً يخصّ الآخرين، إنه مستقبلنا. لقد اعتقدنا لفترة طويلة أننا محميّون من الحرب والعنف. لقد تأخّرنا عشر سنوات على الأقل. ثمّة أكثر من "سورية" واحدة تخاطر بالانفجار في وجوهنا. ما العمل؟ للإجابة عن هذا السؤال، نحتاج إلى الانغماس في البحر والنظر من تحت سطح الماء: استكشاف فلسفة تنتهي بالشعر، يبدو أنّ هذا ما يُخبرنا به نوري الجرّاح.


* Emanuele Bottazzi Grifoni شاعر وأكاديمي إيطالي، والترجمة عن الإيطالية: يوسف وقّاص

المساهمون