- يناقش الفيديو دور الحكومات الغربية في دعم "إسرائيل"، مستندًا إلى القيم الديمقراطية الغربية ويكشف عن الوجه الحقيقي لدولة الاحتلال، مبرزًا التناقض في دعم اليمين الغربي لـ"إسرائيل".
- يحث Shaun متابعيه على رفض المشاركة في الظلم ضد الفلسطينيين، داعيًا إلى رفع الأصوات ضد دعم السياسيين لدولة الاحتلال والمشاركة في التظاهرات وإرسال التبرعات، مما يعكس صحوة بين الشباب المثقفين في الغرب.
بالصدفة ظهر لي فيديو "Palestine"، بعنوانٍ من كلمة واحدة، ومن دون أي توصيف إضافي، وبصورة ثابتة تختلف عن أيّ شيء مُرتبط بالقضية الفلسطينية، أو حرب الإبادة الصهيونية القائمة في غزّة، تُشبه خلفيّات مقاطع فيديو الموسيقى الهادئة التي تُساعد على القراءة أو الدراسة أو التفكير، بحاسوب مفتوح أمامه مشروب ساخن يتصاعد منه البخار، وجمجمة تلبس نظّارة تجلس على الكرسيّ المقابل، وتتصفّح ما على شاشة الحاسوب، كلّ هذا في مكتب يُطلّ على مدينة هادئة.
لم أكُن أتوقّع أيّ شيء يُمكن أن يكون عليه محتوى الفيديو، لكنّني دخلت بفضول جارف، وبدأتُ أسمع. شابٌّ يتحدّث بلهجة بريطانية، والفيديو أقرب للبودكاست، لكن مع بعض الصور والفيديوهات القصيرة للتدليل على محتواه، يتحدّث صاحب الفيديو (اسمُ قناته Shaun) عن علاقته الشخصية بالقضية الفلسطينية، وكيف بدأ بالتفاعل معها والتعمّق فيها.
نبرة الحديث تختلف إلى حدّ ما عن أغلب الفيديوهات والبودكاستات المتعلّقة بفلسطين والتي تنتشر بقوّة مؤخّراً، في كلّ مكان وجِهة حول العالَم، فالشابُّ لا يُحاول أن يشرح تاريخ الحركة الصهيونية، ولا أن يوضّح للمُشاهِد أبعاد ما يحدث في غزّة، كان يتحدّث من منطلق إنساني واعٍ، أي عن تفاعُله الإنساني القائم على السؤال والتحرّي وإعادة النظر في الأخبار التي تصله والتعليقات عليها.
يبدأ كلامَه بأنه اليوم يُريد أن يتحدّث مع متابعيه عن الأحداث الجارية في فلسطين، رغم أنه في العادة يقدّم محتوىً من نوع آخر، ولا يتضمّن التعليق على أحداث جارية، بالنظر إلى بقية محتوى القناة، فهو كان يركّز على أشياء تاريخية. السبب في هذه الخطوة هو أنه، حسب قوله، لا يستطيع التركيز على أي شيء آخر في هذه الفترة، وأن الأحداث في فلسطين أصعب من تجاهلها أو الانشغال عنها.
لا حجّة اليوم لأيّ إنسان أن يدَّعي عدم معرفته الحقيقة
يقول إن بداية تعرّفه على القضية الفلسطينية، كانت حين صُدم سنة 2014 أثناء العدوان الإسرائيلي على غزّة، بصورة نشرها مصوّر إسرائيلي، لمجموعة من الإسرائيليّين، يجلسون على تلّة قريبة من القطاع، يراقبون بفرح القنابل التي تُسقطها قوَّاتهم الجوّية على غزّة، ويهتفون لها وهي تقتل مئات من المدنيّين. يقول إن هذه الصورة غيّرت الكثير داخله، إذ كان، مثله مثل أغلب الجمهور الأوروبي والغربي، يحمل تصوّراً ساذجاً عن النزاع في فلسطين، وهو أنها "حرب دينية بين فئتين تتقاتلان بين الحين والآخر" ثم يزيد أنه "ولسبب ما، كان يعتقد أنّ الإسرائيليّين هُم الأخيار في هذه الحرب، وأنّهم حلفاء الغرب وأبناء الديمقراطية". لكن، لماذا كان يعتقد هذا؟ لماذا هذه هي صورة "إسرائيل" في الغرب؟ يقول: "إنّه لا يعرف، وكلّ ما يعرفه أنّ هذه هي وجهة نظر حكومته وكلّ حكومات الغرب، وهو رأيُ أغلب الكتّاب والناشرين الغربيّين".
لكن تلك الصورة التي رآها دمَّرت هذه النظرة إلى الأبد، فكيف يُمكن للـ"أخيار" أن يجلسوا على تلٍّ يحتفلون بموت مئات الأطفال والنساء والرجال الأبرياء؟
يَشعر صانع المحتوى هذا، هُنا، أنه جزء من الصراع وطرفٌ فيه، وهذا يسبّب له أزمةً أخلاقية كبيرة، يُحاول من خلال حديثه إلى متابعيه أن يخبرهم أنهم مشاركون بحرب الإبادة في فلسطين، وأنه لا يوجد طريقة لتجميل ذلك، لأن حكومته وحكومات الغرب كلّها تدعم "إسرائيل" بالمال والعتاد والتغطية الدبلوماسية، فقط لأن "إسرائيل" هذه تُمثّل - حسب رأي رجال السياسة والإعلام - الجانب الذي يتبنَّى "القيم الديمقراطية الغربية"، وتمثِّل امتداداً للحضارة الغربية.
يقول إن هذه الحجّة لا يجب أن تنطلي حتى على شخص غير مُطّلع أو فاهم للأحداث كما كان هو قبل عام 2014، خصوصاً أنَّ دولة الاحتلال أبعد ما تكون عن كلّ هذه الصفات، وكلّ أفعالها وتصرّفاتها وتصريحات سياسييها أشبه بما يُقرأ من أزمنة غابرة تظنّ أوروبا أنها تجاوزتها من عشرات، بل مئات السنين.
ثم يبدأ بعرض الكثير من الأمثلة الكاشفة لأداء "إسرائيل" أثناء الحرب، وكيف أنها لا يُمكن بأيّ حال أن تُمثّل الصورة التي يُحاول السياسيُّون الغربيّون إيصالها للشباب والمتلقّين الغربيّين، وكيف يُصرّ هؤلاء دائماً أثناء تبرير دعمهم لهذه "البربرية الهاربة من كتب التاريخ التي عفا عليها الزمن" على أنّ المسألة شديدة التعقيد، وصعبة على فهم العامّة، وأنّ عليهم أن يثقوا برأي النُّخبة الحاكمة حولها، ويستمرّوا في دعمهم واصطفافهم خلف "إسرائيل". بالنسبة لصاحب الفيديو هذا هراء، والمسألة أبسط بكثير من ذلك. هو يرى أنَّ القضية تاريخياً فيها شيء من الصعوبة لكثرة التفاصيل والأحداث، أما أخلاقياً فهي بسيطة جداً وواضحة.
هنا يبدأ بعرض مختصر جداً لتاريخ الصهيونية ولنشأة دولة الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، مستفيداً بشكل أساسي من كتاب "حرب المائة عام" لرشيد خالدي، والذي نصح متابعيه بشدّة بقراءته. من الأشياء الأساسية التي توقّف عندها صاحب الفيديو كان "وعد بلفور"، وشخصية هذا الرجل الذي وعد اليهود بدولة في فلسطين رغم أنّه، أي بلفور، في الأساس معادٍ لليهودية. فَهْمُ شخصية بلفور وتركيبته السياسية ساعد صاحب الفيديو على فَهْمِ تصرُّف الأحزاب اليمينية في أوروبا والغرب، والذي قد يبدو مُربكاً وغريباً، فهُم بالأساس معادُون لليهودية لكنّهم شديدو الدعم لـ"إسرائيل".
يقول إن هذا "التناقض الظاهري" كان أيضاً موجوداً عند بلفور، الذي كان يرغب في منع هجرة اليهود إلى غرب أوروبا، ويؤكّد على استحالة اندماجهم في المجتمعات الأوروبية، وأن هجرتهم إلى فلسطين ستخفّف من أعباء وجودهم في أوروبا، وهو ما تبنَّته ووافقت عليه الحركة الصهيونية.
كيف للـ"أخيار" أن يجلسوا على تلٍّ للاحتفال بموت الأطفال
يؤكّد صاحب الفيديو إذن أن وقوف اليمين الغربي خلف "إسرائيل" يعود إلى سببين، الأول هو رغبة هؤلاء في التخلّص من اليهود من مجتمعاتهم، والثاني لأن خطاب دولة الاحتلال شبيه إلى حدّ التطابق مع الخطاب القومي الذي تتبنّاه هذه الأحزاب، فهي ترى دولة الاحتلال مثالاً يريدون تطبيقه في بلادهم. هنا يَلفت صاحب الفيديو إلى خطورة هذا التحالُف اليميني، ليس لما يقوم به من إبادة في قطاع غزّة فحسب، بل وعلى استقرار وحرّية وأمن الدول الغربية نفسها.
من المواقف الصادمة والتبريرات المُستهجنة التي يُسلّط صاحب الفيديو الضوء عليها، هو إعلان دولة الاحتلال أن الهدف وراء تدمير غزّة بالكامل، وقتل هذا العدد الكبير من المدنيّين، هو دفع سكّان غزّة إلى الاستسلام والثورة على "حركة حماس" وإسقاط حكومتها في القطاع، وهذا مجدّداً تبرير "هارب من كتب التاريخ التي عفا عليها الزمن"، وهو محاولة أُخرى لإسقاط الإنسانية عن الفلسطينيّين، إذ إن "بلدي بريطانيا لديه إيمان تاريخي يفتخر به وهو أنَّ الشعب البريطاني بينما كان يتعرَّض لقصف هائل من القوات النازية، سقط بسببه مئات القتلى، ودُمِّرت مدنٌ وأحياء بأكملها، حتى إن بعض صور لندن من ذلك الوقت تُشبه الصور القادمة من غزّة اليوم، رغم ذلك كله، فإنّ مواطنيها صمدوا وصدُّوا النازية، ولم ينقلبوا على حكومتهم ولم يُحمِّلوها المسؤولية عن هذا الدمار، لماذا إذن نتوقّع من أهل غزّة غير هذا؟ إنّها ببساطة النظرة الفوقية الكريهة ومحاولة لنزع إنسانية هؤلاء الناس، الذين نريدهم أن يخرجوا في الشوارع يصيحون، بدل أن نساعدهم ونفهم مأساتهم".
من الأشياء التي يركّز عليها صاحب الفيديو أيضاً، والتي كانت السبب في تغيُّر وعيه وفهمه للقضية هو دور وسائل التواصل الاجتماعي في النقل الأوَّلي للأحداث، فعلى عكس الحروب البربرية المعروفة في التاريخ، كان المؤرّخون ينتظرون "دفن الجثّة وانتهاء الحرب"، لتوثيق الجرائم ودفع الدول للاعتراف بها، أمّا الآن فالحدث والخبر الكاذب ثم الحقيقة التي لا شكّ فيها، كلّ ذلك يحدث في اللحظة نفسها، ولا حجّة اليوم لأيّ إنسان أن يدَّعي أنه لم يكُن يعرف الحقيقة أو لم يكُن يُدرك حجم المأساة، لأن المستشفى الذي تدمّر اليوم ويُدَّعى أن تحته خطّ أنفاق ومركزاً عسكرياً، لديه حساب على "إكس" (تويتر سابقاً) وفيه طاقم طبي، يوثِّق كلّ دقيقة من حصار المستشفى وتدمير ما فيه، وكشف كلّ أبعاده وإحداثيّاتها، وما تحته وما فوقه.
إن ارتباط "الحدث وظهور الخبر الكاذب والحقيقة" في لحظة زمنية واحدة، يؤدّي إلى نتيجتين حتميّتين: أوّلاً انكشاف الحدث للعالَم، وثانياً: تأكيد أنّ الجاني يكذب ويتلاعب بالحقائق. ومن أهم الأشياء التي قدّمتها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي استفاد منها صاحب الفيديو ليفهم طبيعة هذه الدول، هي الترجمة الفورية للمنشورات، والتي سمحت بالكشف عمّا يَقوله المسؤولون الإسرائيليّون لمتابعيهم، وطبيعة الخطاب العنصري الذي يختلف عمّا يُسوِّقون به أنفسهم في الغرب، فخاصية الترجمة الفورية هذه ساهمت في كشف الإسرائيليّين، الذين كانوا يعيشون في قوقعتهم السياسية مُحتمين باللغة العبرية التي لا يفهمها العالَم.
بعد كثير من التفاصيل والأمثلة التي يسردها "اليوتيوبر"، يختم الفيديو بمحاولة لإيجاد طريقة له ولمتابعيه، للخروج من دور الجاني المتواطئ الذي يساعد في حدوث جريمة بربرية هاربة من كتب التاريخ. يُقرّ أن الإجابة ليست سهلة، لكنه يستشهد برواية "السائرون بعيداً عن أوميلاس" للكاتبة الأميركية أورسولا لي غوين، والتي تتحدّث عن مدينة مثالية فيها كلّ عناصر الرخاء والرفاهية، وليس فيها أيّ من المثالب والآفات، لكن مثاليّتها قائمة بشرط بقاء طفل صغير يَحمل كلّ مآسي العالَم ويُعاني منها وحده، منعزلاً عن بقية السكَّان المُترفين.
تطرح الرواية سؤالاً فلسفياً يرى صانع المحتوى هذا أنه يرتبط بطريقة ما بتصرُّف العالَم الغربي مع معاناة الشعب الفلسطيني، وغيره من الشعوب التي لا تزال تدفع ضريبةَ الاستعمار الذي يعيش الغربيّون اليوم بخيراته. في نهاية القصة تقرّر مجموعة من سكّان هذه المدينة المثالية أن يخرجوا منها وينأوا بأنفسهم عن المشاركة في عذاب هذا الطفل، رغم أن خارج المدينة هو فضاء أسود مجهول، لا يعرف أحد ما فيه، لكنّه كان لتلك المجموعة، أهون من حمل العبء الأخلاقي بتعذيب أبديّ لإنسان مثلهم.
هنا يُوجِّه صاحب الفيديو دعوته لمتابعيه، أن يكونوا كالذين غادروا أوميلاس، بأن تعلو أصواتهم بأنهم لن يدعموا أي سياسي يُساند دولة الاحتلال، وأن يخرجوا للتظاهرات وأن يرسلوا التبرُّعات وأن يثقّفوا أنفسهم حول القضية، و"ألا يركنوا إلى الدعاية الرأسمالية التي تقول: إن الخلاص هو دائماً خلاص فردي لكل شخص وحده، بل إن صاحب الفيديو يؤمن أنه لا يزال هناك فرصة للجماعات والمجموعة لأن تتحرّر وتؤثّر في حركة التاريخ، إذا اتّحدت وتعاونت".
هذا الفيديو الغني والصادق والذي تجاوزت مشاهدته المليون ونصف مليون مشاهدة خلال أسبوعين، رغم أن مدّته أكثر من ساعة ولا يحتوي على كثير من الصور والحركة، يعكس صحوة تحصل برويَّة وسط قطاع واسع من الشباب المثقّفين في دول غربية كثيرة، دفعهم ربما حبّ الفضول، وربما حسٌّ إنساني صادق، أو أي سبب كان، ليكتشفوا أبعاد القضية الفلسطينية أكثر وأكثر، ليُصدموا بالخديعة الكُبرى التي انطلت على أجيال كثيرة منهم وعلى مدار ما يُقارب القرن، بأن دولة الاحتلال هي حارس الغرب من "التطرّف والإرهاب والرجعية"، بينما يثبت الآن أنها هي الجهة التي تمارس "أفعالاً بربرية هاربة من كتب التاريخ".
* كاتب من فلسطين مقيم في ألمانيا