لم تُكتب "الإلياذة" في الزمن المعاصر لحرب طروادة، بل بعد ذلك بقرون، ولم تُكتب "مدن الملح" في الزمن المعاصر لاكتشاف النفط والتحوّلات التي طرأت على منطقة الخليج، بل في زمن تلا ذلك بأكثر من أربعين عاماً، ولم يكتب كارلوس فوينتيس "موت أرتيميو كروث" أثناء ثورة زاباتا الفلاحية، بل بعد نهايتها بعقود، ولدينا عشرات أو مئات الأمثلة المُشابهة. ومع ذلك، فإنّ مطالبة الروائي بمواكبة الأحداث ما زالت تشكّل عِماداً لأكثر من اتجاه في الأدب والنقد والرأي العام، لتضعَ الروائيّين أمام سؤال ذي طابع إشكالي تُستخدم فيه "مواكبة الحدث" بوصفها مقياساً للموقف الأخلاقي والفكري اللذين يجبُ أن يتصف بهما تجاه الزمن والعصر.
والانقسام بات واضحاً بين مَن يرغب ويدعو إلى الكتابة الفورية عن الحدث الراهن، وبين مَن يدعو للتريُّث والانتظار كي يكتب عن أيّ واقعة أو حدث. وهذا الانقسام بدوره تعبير عن الموقف من طبيعة الرواية ذاتها. فمَن يفكّر بالحدث الخارجي يرى أنّ الرواية تسجيلٌ أو توثيق للأحداث، يطالب الروائي بالكتابة الفورية. والرواية في رأي هؤلاء هي التي تحكي عن القضايا الكبرى، وفي تلك القضايا يختفي الإنسان الفرد، وتحضر الجماعة والفكرة والوطن والهويّة والقومية والثورة وغيرها، التي يفترض هذا الرأي أنها تأتي تامّة ومكتملة وجاهزة للوصف في النص الروائي. ولهذا يبدو أنّ حدثاً كالثورة أو الاحتلال أو الحرب أو غيرها مناسبٌ كي تكتب عنه. وفي الغالب فإن الروائي قد يوصف بالتقصير والخوف والتراجع والعجز والتخلُّف عن مواكبة العصر أو الزمن الراهن، والهرب إمّا إلى الماضي، أو إلى المستقبل، إذا ما تأخّر، أو تغاضى، عن الحدث الكبير في محيطه ومجتمعه.
الحدث الروائي لا يستعيد الحدثَ الواقعي إلّا ليعيدَ النظر في إمكاناته
غير أنّ مَن يفكّر بأنّ الرواية تاريخ الإنسان لا القضايا، فإنّ البطء والغياب عن المواكبة، والرِّفق بالبشر، وانتظار المصائر التي تتعرّض للتغيّر والتبدُّل، هي التي تُلهم أعماله، لأنّ الإنسان الروائي متغيّر وليس ثابتاً أو معطىً نهائياً، والحدث الروائي لا يستعيد الحدث الواقعي إلّا كي يعيدَ النظر في إمكاناته.
الرأي الأول يقول: فات الأوان، لا تنفع الرواية التي تريد أن تتحدّث عن القتل حين يصبح القتلى رميماً، ولا تفيدنا الرواية التي تتحدّث عن الحرب حين تنتهي الحرب، ولا نريد الرواية التي تؤرّخ للثورة إذا ما جاءت بعد هزيمة الثورة. لقد انتهى الأمر. ومَن يدافع عن الزمن، أو المسافة الزمنية التي يجب أن تفصل بين الروائي والموضوع، يفكّر بالمتغيّرات، ولهذا فإن اختيار الموقف السياسي للشخصية فقط كي يكون تعبيراً عن الحقيقة مثلاً، قد لا يعطي مصداقية للرواية، بسبب هذه الاشتباكات المعقّدة التي وُضع فيها الناس.
تُنتج مشكلة الزمن والرواية مأزقين: الأوّل أزمة كتابة شخصية يرتبك فيها الروائي بين همّه كمواطن وإنسان يرغب فعلاً في التعبير المباشر السريع عن مشكلات الإنسان في الراهن، وبين همومه ككاتب يريد أن يحقّق للرواية ما يليق بها من فنّ. بينما يبدو الثاني أزمة حصار، حين تُترجَم المواجهة بين الكاتب والمجتمع إلى مطالب وتوجيهات لا تلبث أن تصبح قيوداً.
* روائي من سورية