الرواية تقرأ التاريخ

16 ديسمبر 2022
"طبقات من الروايات الفرنسية" لفنسنت فان غوخ، 1887
+ الخط -

يقول معظم النقّاد اليوم إن عظمة سرفانتس تكمن في قدرته على قراءة الواقع، أو قراءة الحاضر الذي كان يعيش فيه، والخروج برواية "دون كيخوته" التي سخِر فيها من محاولة أحد الفرسان إعادة تكرار تاريخٍ انتهى ومات ولم يعد من الممكن أن يُستعاد. سوف يختلف النقّاد بعد ذلك في معنى قراءة سرفانتس: ماذا قرأ في الواقع؟

يكرّر النقد مثل هذا الوصف عن معظم الروائيين المعروفين؛ فهل كان هؤلاء فعلاً قد قرأوا التاريخ والواقع قراءة صحيحة، واستطاعوا أن يعبّروا عن اتّجاهه بعمق؟ مَن الذي يقول ذلك؟ وما معنى "قرأوا التاريخ"؟ وهل هناك روائي عجز عن قراءة التاريخ والواقع؟ ومَن الذي يرشّح أي كاتب كي يكون المثال أو النموذج الذي يمثّل صِدق القول عن التاريخ؟

غير أن المأزق الذي لم يُحَلّ بتاتاً حتى اليوم هو التالي: هل كان سرفانتس يقصد، قبل أن يبدأ في كتابة روايته "دون كيخوته"، أنه يريد التعبير عن نهاية القرون الوسطى، التي كان يمثّلها مجازياً أولئك الفرسان الجوالّون الذين يدّعون أنهم يدافعون عن الشرف والنزاهة والمبادئ الجميلة في الحياة، بينما كانوا في حقيقة الأمر يقاتلون طواحين الهواء؟ أم أن الصدق الفنّي الذي كتب به الروائي تلك الرواية هو الذي قادها إلى التعبير بتلك الطريق الفذّة، التي أبهرت العالم كلّه منذ أربعة قرون حتّى يومنا هذا؟ أم أن الثقافة الحديثة هي التي منحت الرواية هذه الأهمّية، بعد أن تراكمت لدى البشرية معرفةٌ أكثر عمقاً بالتاريخ والواقع والنظرية، فجعلت من شخصية دون كيخوته مثالاً ونموذجاً للتعبير الحيّ عن ثقافة قرون زالت؟

ثمة قول بأن الروايات، لا كتّابها، هي التي تمسك باللحظة التاريخية

قال الناقد الروسي فيساريون بيلينسكي، في بداية القرن التاسع عشر، إن القيم الديمقراطية أو الثورية في روايات بوشكين وغوغول وليرمنتوف غالباً ما توفرت، على الرغم من نوايا خالقيها. أي أنّ أحداً منهم لم يُمسك باللحظة التاريخية، بل إن رواياته هي التي فعلت ذلك.

في رواية "سانكا" للكاتب الروسي زاخار بريليبين ـ وهو كاتب من الحقبة الأخيرة لم نسمع باسمه من قبل، على الرغم من شهرته في بلاده، بحسب ما يذكر مترجم الرواية ـ يسجّل الروائي أحداث التظاهرات المعارضة للسلطة الجديدة التي حكمت روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. يقدّم الروائي صورة أُفقية عريضة لمجتمع الحزب المعارض، من خلال الشاب ساشا، وبعض رفاقه، دون أن يقول رأياً.

تبدو الرواية ماكرة للغاية في تقديم الجهات المتصارعة، إذ يترك الروائي الممارسة وحدها تمنح القارئ الصورة اللازمة عن كلّ طرف: عنف السلطة الوحشي؛ فوضى الشبّان وعدميّتهم وسعيهم لإحياء روسيا غامضة قائمة على العنف؛ موقف الناس السلبي من كلّ شيء؛ الماضي الشيوعي الممقوت، والحاضر المدمّر، والفقر والحياة البائسة.

هل يقرأ الروائي التاريخ والواقع هنا قراءة صحيحة؟ وماذا يمكن لمؤيّد من يساريّي العالم العربي أن يقول لروسي يعيش الواقع ويكتبه في عمل إبداعي؟ ومَن نصدّق؟ الحزبيّ البعيد المحمول على رغبات الأيديولوجيا، أمِ الرواية التي تخوض في أوحال واقعها؟


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون