الرواية السورية أمام فصيل الإعدام

30 مارس 2023
جزء من لوحة للفنان السوري سعد يكن، 2014
+ الخط -

يصعُب على الكاتب السوري، بصفة عامَّة، تخطّي السنوات الدامية التي شهدها بلدُه. استعراضٌ سريع لخريطة الأدب السوري يكشف أنَّه أدبٌ لا يزال يبحث عن دَور، وعن طبيعة لما يُريد قوله. فالتجربة التي امتدَّت لسنوات وأحدثت تغيُّرات يمكن للرواية أن ترصدها؛ لم تضع رِحالها بعدُ، وكأنَّما بات هذا شكلها؛ تجربة ممتدَّة في اللامعقول، وقبل ذلك، تجربة ممتدّة عميقاً في الألم. 

بدءاً من دَور الكاتب يُمكن للمُراقِب أن يرصد مذهبَين؛ أحدهما وجد أنَّ عليه الاشتباك مع اللحظة، وآخر وجد أنَّ عليه التنحّي عن المشهد الطارئ المعقّد. فالحدث لم يصل بعد إلى مصافي الأدب. ويبقى هذا رأياً له وجاهته، مع وجوب الإشارة إلى أنَّ ما يجعل من موضوعٍ ما أدباً، ليس الموضوع البتَّة، وإنَّما الأسلوب. أمّا الذين اعتقدوا أنَّ على أدبهم أن يأخذ دوراً، فنجدهم موزّعين، وكُلٌّ أخذ جانباً من الحكاية الشاسعة التي هي سورية. يبدو هذا طبيعيَّاً أيضاً، فما يصنع الكاتب أساساً هو امتلاكه الأسلوب الذي يُميِّزه، والزاوية التي يَرى منها.

لكنّ مَن راح مِن الكتَّاب يُفكّك اللحظة السورية، وجد نفسه عرضة لنوعٍ من القرّاء السوريين، هو قارئ طاغية، محتدّ بصورة دائمة. إذ إنَّ عُنف الحدث وقوّته واستدامته وانسداد آفاقه، دفعَت بعضهم إلى الانتظار من الكُتَّاب التخلّي عن خصوصية فنِّهم، عبر تصدير مواقفهم السياسيَّة بصورة مباشرة في أعمالهم. والأكثر فداحةً انتظارُ ذلك من الكُتَّاب خارج أعمالهم! وقد خضع القارئ إلى التجاذُب الحادّ والعنيف الذي تعرَّض له الكاتب. 

مطالب بالتخلّي عن الفنّ لصالح تصدير مواقف سياسية مباشرة

التخلّي المرجوّ من الكُتَّاب عن خصوصية فنّهم أكثر ما يتبدَّى عند استقبال أعمالهم، حيث يكون كثيرٌ من الأسئلة التي يتساءلها هذا القارئ بالتحديد، أشبهَ بالاستجواب منها بالقراءة، إذ كان شاهداً بدوره على الحَدث. وينتظر من الكاتب موقفاً واضحاً ـــ لا فنيَّة لازمة فيه ـــ ممَّا حدث، وعدا ذلك فالقارئ الطاغية لن يعتدَّ بأدب الكاتب. كما لم تظهر بعدُ روايات ـــ تُحدثُ فرقاً ـــ وتستخدم التَخيُّل، في مساعدة القارئ على تجاهُل واقعيَّة النصوص، التي أساساً حدثت بالفعل في شوارع فقدَها القارئ، وفي مُدن هُجِّر منها، أو قرّر الرحيل عنها من تلقاء نفسه بحثاً عن حياة أفضل. 

من الصعوبة تحييد الجغرافيا السورية عن خريطة الأدب، سواء من جهة القراءة أو الكتابة. وفَرق التجربة لدى الأفراد نجم عنه فَرْقٌ في كتابة الحدث وفي قراءته. تبدو الأسئلة هنا أسئلةً خاطئة. وهذا صحيح. إنّها أسئلة خاطئة، إلا أنَّها بعض الأسئلة التي انسلَّت من جوّ الحرب إلى فضاء الكتابة، يلمسها الكُتَّاب، ويصارعونها بدرجات متفاوتة، ولو أنّها أسئلة مؤقّتة، تسقط، مع سقوط المرحلة التي ستعاود الظهور في الأدب بصورة دائمة. وقد يبقى نوعٌ آخر من الأسئلة أكثر التصاقاً بالكتابة، من قبيل البحث عن حقيقة البشر في اللحظات القاسمة للوعي، والبحث في حتميّة تحرّر الكاتب من الولاءات جميعها، عدا ولائه لفنّهِ.

في جوّ الأسئلة الخاطئة التي تدفع بالأدب إلى الواجهة، عوضَ أن تُتيح له الانكفاء وراء حياة البشر العادية، حيث يحبّون ويخونون، حيث يسافرون أو يعودون؛ ليس يسيراً على الكاتب الرجوع بكتابته إلى هَدْأةِ الكتابة، وكُلُّ ما يحيط بهِ منهار؛ فضاءُ الحرّية غائب، فضاء الانتماء غائب أو مهدَّد، فضاء الهوية متآكل. وعند بعض الكُتَّاب، حتَّى فضاء الأمان الشخصي غائب. وعلى التوازي مع كُلِّ هذا، يتعرَّض لقارئ لا يتساءل أمام النصوص التي يقرأها، وإنَّما يُحاكمها ويعدمها ما لم توافق سرديّته. إذاً، الرواية السورية رواية حبيسة، رَهْن الاستجواب، وتقف أمام فصيل الإعدام.
 

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون