الروائي منحازاً

16 أكتوبر 2020
إبراهيم جوابرة/ فلسطين
+ الخط -

لمن ينحاز الروائي في الرواية؟

والجواب المحتمل هو أنه لا ينحاز فنّياً، أي من جهة بناء الشخصيات أو الأحداث. إذ المعتاد أن يكون لديه موقف متساو في علاقته بشخصياته تقنياً. فهو لا يمنح الشخصية التي يؤيدها، ويجعلها ممثلة لوجهة نظره في الحياة، وفي الفكر، وفي السياسة، كل قدراته الإبداعية في البناء الفنّي، بينما يتساهل أو يتقاعس عن بناء الشخصيات الأخرى، ويميل إلى التهاون بشأنها في هذا المجال، إذ إن من يدفع الثمن هنا إنما هو الرواية، أي العمل الفني والأبعاد الجمالية فيها.

ونحن هنا نضع فرضيات نظرية فقط. ففي الروايات التي تحمل هذا الاسم بجدارة، يفترض أن سمة الديمقراطية والنزاهة التي تتصف بها في بنيتها، تمنع الروائي من الانحياز إلى شخصية دون أخرى، وتفترض أن عليه أن "يحبّ" جميع شخصيات روايته بالقدر نفسه. 

ترفض الرواية أن تنحاز فنياً لكنّها منحازة أخلاقياً وفكرياً

فهل هذا ممكن حقاً؟ كيف يستطيع الروائي أن يحبّ مخبراً؟ أو يعجب بمستبدّ؟ أو يزيّن خائناً؟ لا يستطيع أحد القول إن دوستويفسكي كان "نزيهاً" في تعامله مع شخصياته في "الإخوة كارامازوف" أو أنه كان عادلاً. وقد اتبع في الكتابة طريقين: الأول هو أنه قد أعطى كل الشخصيات في الرواية المساحة الكافية كي تعبّر عن نفسها، ولم يفضّل شخصية على أخرى، أو انحاز إلى شخصية دون أخرى، والثاني هو أنه كان يتدخّل في السرد، ويعلّق على الكلام، وخاصة حين يتعلق الأمر بـ "فيدور"، وهو اسم الأب في الرواية. ففي إحدى المرّات يقول إن فيدور بافلوفتش بوغت من تحية الاحترام التي حياه بها ابنه، وأنه ردّ تحية ابنه بمثلها، ثم يعلّق هكذا على هذا الموقف: "لقد اكتسى وجهه على حين فجأة تعبيراً رصيناً مهيباً، فما زاده ذلك إلا خبثاً وشرّاً".   

وقد أردت تقديم هذا المثال لأن النقاد والقرّاء معاً يعتبرون الرواية مرجعاً في عالمها. بل إنها الرواية القادرة على أن تقدّم نماذج المجتمع الروسي في زمنها. غير أن الراوي، أو الروائي، لم يكن محايداً البتة، والسؤال هو: أين؟ في الفن؟ لا أبداً، ففي الفن صنع الروائي مجد الرواية، أما في الفكر والسياسة، وفي رؤية العالم وفي المواقف الأخلاقية من القضايا الكبرى في عالم الإنسان، فقد صنع الروائي مجده هو.     

ففي كل رواية صراع ما. بين الخير والشر، بين القوة والضعف، بين الإنساني والوحشيّ، بين الظلم والكفاح، بين الرغبة في الصدق الفنّي، وبين الميل أو الهوى الفكري. أي أن في كل رواية العشرات بل المئات من الافتراضات التي تمثّل الحياة بكل ما فيها من التناقضات. وفي داخل كل شخصية أيضاًَ صراع ما، ولا مناص من أن ينتصر الروائي لأحد تلك الخيارات، أو لأكثر من خيار.

هل كانت الرواية (أو الروائي) منحازة إذن؟ نعم ولا، فهي ترفض أن تنحاز فنياً، فلا تساوم على بنيتها وعمارتها وشكل وجودها، وهي منحازة أخلاقياً وفكرياً ولا تساوم على قضايا الحق والخير والعدالة.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون