"الرحلة الناقصة"، كتاب فاطمة المحسن الصادر عن "منشورات الجمل"، يشير بعنوانه إلى نقصان في رحلة فاطمة، التي هي أيضاً سيرتها. قد يبحث القارئ عن هذا النقصان في رحلة تعمّدت كاتبتها ألّا تسمّيها سيرة. قد يكون الناقص هو في السيرة نفسها، وقد يكون الكتاب في مجاله أوسع من سيرة، أو قد يكون، من ناحية ما، فائض سيرة. مع ذلك فإنّ هذا الاتساع وجه آخر لنقصان، لا بدّ من ملاحظته.
لا بدّ من ملاحظة أنّ مراحل في حياة فاطمة، لم تتطرّق إليها أو لامستها من بُعد، مثل الطفولة التي لم تتعرّض لها إلّا باللمح، فما يبقى منها أنّ الكاتبة تكره والدها رغم إيثاره لها، وتفضيلها، بحسبه، على إخوتها. لا نعلم عن العائلة إلّا أنّ الأم مُطيعةٌ لزوج أناني، وأنّ أخاها رحل إثر حادث سيارة. من الواضح أنّ هذا الضرب من السيرة لم يكن غاية فاطمة، فهو إن مرّ يمرّ في كتابها عرَضاً. ما يهمّها هو سيرة النضوج، ويتجلّى هذا في الثقافة والسياسة.
هنا نقع على حياة أوسع من صاحبتها. السياسي يستقطب آخرين، نشعر أنّ لهم في الكتاب نصيباً يوازي ما للكاتبة، وقد يفيض عنه. ثم هناك حياتها العاطفية، وهذه يختفي قسط وافر منها ليشعّ فقط قسط آخر. لا نعرف من الكتاب كيف تزوّجت فاطمة أوّل مرّة وممّن وما انتهى إليه. حدث الزواج وصفته في بعض جملها بالشقاء، حدث ترك لها ابنة تطلّ من بعض التفاصيل، من بعيد ومن قريب، من دون أن يكون لها مركز أو محور. إنها سيرة، إذا صحّت التسمية، انتقائية.
ما بقي من السيرة هو ما أرادته أن يبقى وما حصرت حياتها فيه
في وسعنا القول إنّ ما بقي من السيرة هو ما أرادته الكاتبة أن يبقى، وما حصرت فيه حياتها، أو كثّفتها فيه. ما أرادت فاطمة أن تكونه، وما اعتبرته مفاصل حياتها، هو في أحيان يتخطّاها، بل هو في أحيان يجمعها إلى غيرها. لا تستطيع فاطمة أن تروي حياتها الحزبية، في "الحزب الشيوعي العراقي"، من دون أن تنفذ إلى المحيط الحزبي، وإلى البارزين فيه، من دون أن تروي، على نحو ما، سيرة الحزب نفسه في الحقبة التي كانت لها فيه، ومن دون أن يلاحِق الكتاب، في هذا الجانب، محطّات الحزب في ألقه وتدهوره.
ثمّة شهادة على الحزب، لا يني الكتاب يستطرد فيها ويعاودها. أمّا ونحن ننتقل إلى سيرة الكاتبة الأدبية والثقافية، فنحن عندها نلاحق هذه الحياة في محيطاتها وأشخاصها، محطّات وأشخاص في أوسع مدى ممكن، بحيث نشعر أنّ الكتاب، بما يحتشد فيه من تفاصيل وأسماء، نعرف بعضها البارز ولا نعرف بعضها الآخر الأقلّ بروزاً. لكن فاطمة من محلّ ذاتي وتاريخي، تبسط الثقافة العراقية في آونتها القريبة، على نحو يكاد أن يكون، من ناحية أُخرى، تاريخاً أو سيرة للعراق الأدبي والثقافي آنذاك، وهو لا يزال قريباً دانياً، في كلّ ذلك فاطمة لا توارب ولا تموّه ولا تجامل. إنها تعكس، في ذلك، مشاعرها وتقديراتها وملاحظاتها الحقيقية، كما خطرت لها وكما شعرت بها، في نصّ يجمع إلى الصدق ذكاء العبارة، وذكاء الصورة، وذكاء السرد.
ما نقرأه في هذا الجانب هو شهادة حقيقية، في حين أنه، في الوقت نفسه، تصوير دقيق ومحاكمة ذكية وسرد جميل. كتاب فاطمة لذلك، قد يكون شهادة غنية على مرحلة وأدباً عامراً عنها. الكتاب، وهو يتردّد بين السرد والتاريخ والريبورتاج، ماتع كأدب وماتع كقصة. ثم أن هذا ليس كل الكتاب فهو كما يحمل عنوانه رحلة، رحلة تبدأ من بغداد لتعود اليها، من بودابست ولندن والقاهرة وبيروت.
إنها رحلة المعارِض العراقي، رحلة تجمع فاطمة بغيرها الذين لا نزال نقرأ أسماءهم ونرى صورهم. هذه الرحلة ليست أيّ سفر. إنّها من البلد الأم، من الوطن الحميم المكروه كالأب. لكن بغداد تنتقل معها إلى مدن أُخرى، تغدو هذه مع الوقت بغدادات خالصة، بل تتفوّق غالباً على بغداد نفسها، التي مع البعد تزداد نأياً، كما تزداد شحوباً وتخسر أمام المدن التي تلتها. تخسر أمام لندن وأمام بودابست، وبخاصّة أمام بيروت. بغداد هي الراحلة، وهي المنفية وهي التراجيديا الخاصة. هكذا تتكلّم فاطمة عن المدن، وكأنّها جميعها خسارات لبغداد، وجميعها لذلك بغداد المثلى. يمكننا أن نقول إنّ أدب فاطمة، وأدب الكتاب بالتالي، يبرزان بقوّة في هذه الرحلة، وما تستتبعه من مقارنات. نكاد نشعر أنّ فاطمة تبني من هذه المدن تحفاً حقيقية، وتتكلّم عنها وإليها، من قرب وأصالة.
يبقى أن نعرّج على الكتاب الذي أراد لنفسه مركزاً بالغ الشخصية، مركزاً هو قصّة حب، بما يعنيه الحب من اضطراب وتفاعل وربما تضاد. إنّها قصة فاطمة مع فالح عبد الجبار الذي فقدته من سنوات. تريد فاطمة لهذا الحب أن يكون أنشودتها، أن يكون قطب حياتها. هكذا نقرأ شيئاً بين التغنّي وبين السرد وبين الشهادة. فالح بطل السيرة، وبطل الرواية، لكنّه بطل حقيقي بما يعنيه ذلك من تراجيديا خاصّة، ومن تفاوتات وتباينات. مع فالح نطوي كتاب فاطمة، ومعه يتحوّل الكتاب إلى رواية حقيقية، وإلى ما يشبه القصيدة.