الدبّ أم السلمون؟

27 سبتمبر 2024
يوسف عبدلكي/ سورية
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم وثائقي يستعرض مغامرة سمك السلمون في مقاومة تيار النهر العنيف والدببة المفترسة للوصول إلى أعالي النهر لوضع البيوض وضمان استمرار النوع.
- فيلم آخر يعرض مغامرة دب ينتظر مرور السلمون ليصطاده ويخزن الشحوم لفصل السبات الشتوي، مما يثير تعاطف المشاهدين مع الدب.
- يطرح الفيلمان تساؤلاً حول وجهات النظر: هل نمجّد الحياة أم نصفّق للمفترس؟ ويبرز الفرق بين عدالة الطبيعة والعدالة البشرية.

في أحد البرامج الوثائقية فيلم طويل يحكي عن مغامرة الحياة لسمك السلمون، فهذا السمك العظيم، المكافح، المتحدّي، يقاوم مياه النهر الدفّاقة القوية، ويندفع صاعداً عكس التيار، محاولاً الوصول إلى أعالي النهر، حيث سيُتاح له أن يضع بيوضه، للتكاثر، وضمان استمرار النوع تالياً. وإذ يلاحظ المصوّر، بعين الكاميرا المتعاطفة، شجاعة السلمون، وجرأته، ومغامرته العظيمة الخالدة، التي يتحدّى فيها الطبيعة، بما فيها من تمثيل: النهر المتدفّق العنيف، والدببة المفترسة التي تقطع طريقه، وتحاول افتراس المئات أو الآلاف من الأسماك، ولا تشبع، فإنّه لا يكسب تعاطُف المشاهدين وحسب، بل يُقدّم درساً قد يتعلّم منه البشر معنى مغامرة الحياة التي تخوضها هذه السمكة الصغيرة، من أجل أن تبقى، وتستمر، رغم كلّ الصعاب.

غير أنّ مصوّراً آخر يُقدّم فيلماً طويلاً يحكي مغامرة الحياة لدب ينتظر مرور سمك السلمون إلى أعالي النهر، كي يصطاد منها ما يستطيع اصطياده، وأكله، وتخزينه في جسده كشحوم قادرة على تغذيته طوال فصل السبات الشتوي. يبدو المصوّر شديد التعاطف مع الدب، ويحاول بكلّ قوّة أن ينتزع التعاطف منّا. بحيث يمكن لمشاهد محايد، أو مشدود الانتباه إلى التصوير المتقن، والتعليق الذي يركّز على ضرورة بقاء الدب المفترس، أن يشعر بالكراهية والحقد على سمك السلمون الذي يتقافز أمام عينَي الدب، ويُسرع مندفعاً داخل مياه النهر، مبتعداً عن يدَيه، وناجياً من الموت.

تحدّد مواقفنا مدى الالتزام بكوننا نمجّد الحياة أم نصفّق للمفترس

هل نحن أمام وجهات نظر؟ أم نحن أمام حقيقة الحياة؟ إذ ثمّة من يرى العالم من وجهة نظر الدب، لا أعرف شيئاً عن المصوّر، غير أن عالمنا يحتشد بآخرين يمثّلون الدب، أو يناصرونه، ويختلقون الذرائع له، كي يستمرّ في حياة الافتراس. وهناك من يرى العالم من وجهة نظر السلمون: إنهم نحن، المجموع الكلّي للبشرية في معظم أنحاء المعمورة ممّن يتعرّضون للافتراس، أو ينتظرون دورهم في ذلك، بينما يصارعون الأمواج كي يستمرّوا في العيش.

تقول الكاميرا إنّنا لا نستطيع، في مواجهة لغة الطبيعة وصراع البقاء، أن نحدّد موقفاً شبيهاً بموقفنا من قيم الحياة البشرية، فعدالة الطبيعة تختلف تماماً عن العدالة البشرية. ومع ذلك فإنّ الصورة تقول إنّ الدبّ المفترس لا تهمّه حياة السمكة، ولا يعنيه استمرارها في التكاثر، إنّه لا يفهم جوهر الحياة إلّا بوصفه خدمةً مخصّصة له وحده، وهو في هذا يشبه إلى حدّ بعيد جوهر كلّ سلطة غاشمة. غير أنّنا نستطيع أن نُقدّم حلولاً مختلفة عن تلك العدالة الوحشية. عدالة ألّا تكون أنت موضوعاً للافتراس، يتغذّى على حياتك كائن آخر، لا يميّزه عنك غير أنّه يقف على الضفّة، منتظراً مرورك، بينما تعمل أنت من أجل استمرار الحياة. لا نختار أن نكون سلموناً، ولكن يجب أن نعرف الكثير عن أولئك الذين اختاروا أن يكونوا دببة، وأن نعرف أكثر أيضاً عن كثيرين، وكثيرين جدّاً، ممّن اختاروا أن يكونوا من بين الذين يصفّقون للدببة. 

يضعك كلا المصوّرَين أمام سؤال محدّد: مع من أنت؟ اختيار وجهة النظر هو موقفنا، وهو المسألة التي تُحدّد مدى الالتزام بكوننا نمجّد الحياة، أم نصفّق للمفترس.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون