هذه "الدولة" التي لا تعرف أين تقف حدودُها، بل لا يُعرَف لها حدود، ولم تُقدِّم قَطّ خريطة رسمية واضحة تُحدّد قانونياً مجالها الجغرافي أين يبدأ وأين ينتهي، بمعنى أنّها في حالة تمدُّد مستمرّ، وهي بهذا تُحصّن نفسها إلى حدّ ما من المساءلة عن أيّ عملية توسُّع لمجالها، والتي لا تتمّ بالضرورة إلا بالقتل الجماعي لأهل البلاد الأصليّين. واليوم، وفي كلّ الحوارات الدائرة في كلّ الميديا من قنوات وإذاعات وصحافة مكتوبة وصحافة إلكترونية، لا أحد تَعرَّض أو ذكَر الوضع القانوني لغزّة، وأنّها واقعة تحت استعمار مباشر منذ 5 حزيران/ يونيو 1967، وأنّ هذه الأرض مغتصَبة، وأنّ هذه الحرب عملية تصفية شعب يُقيم على أرضه.
هذه "الدولة" (الكيان الاستعماري) التي لا تقبل سوى اليهود، بمعنى أنّ الانتماء إليها يمرّ بالعقيدة الدينية. والإنسان إذا لم تكن أمُّه يهودية فهو لا يستطيع التمتّع بحقوق المواطنة، بمعنى أنّ الدولة دينية، وهي لليهود فقط، ما يجعلها صيغة حديثة لحارة اليهود أو الغيتو في مدن أوروبا القرون الوسطى...
مجرّد ذكر تلك البديهيات يدين هذه الدولة التي تقتل الأطفال والنساء
هذه الدولة التي اتّخذت اسم إنسان اسماً رسمياً لها؛ فقد أطلقت على نفسها اسم "إسرائيل" وشعبها من الإخوان أبناء "إسرائيل"؛ أقول "الإخوان" لأنّ مفهوم المواطنة لم يكن موجوداً في تلك العصور القديمة التي ظهرت فيها الديانة. ولمن لا يعرف من هو "إسرائيل"، أقول "إسرائيل" هو اللقب الذي أُطلق على النبي يعقوب بعدما صارع الملاك كامل الليل، وفي رواية صارع الله كامل الليل وقرب الفجر ضربه على حقوه، وقال من الآن أنت تُلقَّب بـ"إسرائيل"، بما في الاسم من رموز القوّة اللانهائية...
هذه "الدولة" التي اتّخذت اسم نبيّ من العهد القديم؛ أنست الناس أن "إسرائيل" مذكَّر، فتراهم في الإعلام يؤنّثون الاسم ويقولون أعلنت "إسرائيل"، وهُم لا يدرون أنّه نبي باستثناء العارفين بالعصور القديمة. أمّا الحداثيّون من خرّيجي المدرسة الكولونيالية، فهُم يَعتبرون كلَّ ما هو تراث كلاسيكي من يوناني وروماني وعربي إسلامي رجساً من عمل الرجعية؛ ولأنهم حداثيون جدّاً جدّاً، وإن كانت حداثتهم شعاراً وأيديولوجيا فهُم لا يقرؤون، وخاضعون بالكامل لسرديات الميديا الاستعمارية، وتراهم يخلطون بين العلم والتقنية الغربية التي هي عالمية، وبين الثقافة والقيَم الغربية التي هي محلّية ويعمل الغرب على ترويجها كقيَم عالمية.
هذه الدولة حوّلت الدين إلى قومية متفوّقة طبعاً، لذلك لا بدّ لها من الحفاظ على صفائها العرقي كما تدّعي. وللحفاظ على هذا الصفاء العرقي الذي يقوم على العقيدة، وهو شيء سريالي، حوّلت نفسها بالنتيجة إلى دولة غيتو؛ دولة تمنع جنسيتها عن كلّ شعوب الأرض وتسمح لمواطنيها بالحصول على جنسيات كلّ بلاد العالم. وهناك فريق فلسطيني غشيم يدعو لدولة لكلّ مواطنيها... والغرب الذي يحارب إيران والإخوان المسلمين الذين وضعهم في السجون من عمران خان في باكستان إلى إخوان مصر إلى راشد الغنّوشي في تونس؛ نرى هذا الغرب يقبل بكل هدوء، بل يحتضن ويدعم، دولة دينية توسُّعية تقوم على التصفية والتطهير العرقي، "دولة" لها في سجلّها الأسود أكثر من عشرين مجزرة؛ بدءاً من مجزرة دير ياسين إلى مجازر غزّة اليوم.
كلُّ ما ذكرتُ بديهيات وحقائق مغيَّبة منسيّة تتجنّب الدول الغربية ذكرها، لأنّ مجرّد ذكرها يدين هذه "الدولة" التي تحترف قتل الأطفال والنساء والمرضى.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام