الحرب الصهيونية العالمية الأُولى

04 مارس 2024
من مظاهرة مؤيّدة لفلسطين في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأميركية، 2 مارس 2024(Getty)
+ الخط -

ليس من المبالغة في شيء القول إنّ الحرب المستمرّة منذ خمسة أشهر، ليست حرباً عالمية ثالثة، بل هي الحرب الأُولى التي تقودها الصهيونية العالمية أو الصهيونية الدولية، وهي ليست "حرب غزّة وإسرائيل"، الاسم الذي أُطلِق عليها زوراً وبهتاناً كسائر التسميات الزائفة والمضلّلة والجانية على الشعب الفلسطيني، بل هي الحرب الأُولى التي تشنّها الصهيونية على العالَم، وهي غير الحرب العالمية الأُولى (1914 - 1918) التي لم يكن للصهيونية فيها، ولا في الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، دورٌ بارز إلى هذا الحدّ من الوضوح الذي ظهر في الحرب الجارية، والتي تُخفي اسمَها الحقيقي الذي تستحقّه وهو: الحرب الصهيونية العالمية الأُولى.

برز دور الصهيونية في هذه الحرب منذ يومها الأوّل عندما هبّ رؤساء الدول ورفعوا قبضاتهم ودقّوا بها على صدورهم وقالوا: "كلّنا صهاينة"، وكنّا نشاهدهم من قبل ذلك على شاشات التلفزة وفي وسائل الإعلام الدولية يعتمرون القلنسوة اليهودية في الزيارات التي يقومون بها إلى "إسرائيل"، وفي بلدانهم عندما يشاركون في المناسبات والاحتفالات والتظاهرات الدينية والسياسية التي يقيمها اليهود.

حربٌ بؤرة النار فيها غزّة، لكن نطاقها يمتدّ إلى العالم كله

هُرِعوا جميعاً إلى تل أبيب وأعلنوا بفخرٍ واعتزاز، أمام العالم، وعلى رؤوس الأشهاد، ولاءَهم ـ بوصفهم صهاينة ـ للدولة الصهيونية، وانخراطَهم غير المحدود في حربها على الفلسطينيين، فقدّموا الأساطيل الجوّية والبحرية وكلّ أسلحة الفتك والتقتيل والتدمير. كان من مآثر هذه الحرب، ومنذ اليوم الأوّل أيضاً أنّها فضحت مقولة مضلّلة وخبيثة عاشت زمناً طويلاً وهي أنّ الصراع في "الشرق الأوسط" هو صراع عربي إسرائيلي، إذ تبيّن أنّ الدول العربية التي وضعت ثقلها في صفّ "إسرائيل" لمحاربة الفلسطينيين ومساعدتها في محاصرتهم وتقتيلهم وتجويعهم وترهيبهم وتشتيتهم، كان حكّامها يقفون إلى جانبها، منذ نشأة تلك الدول، مقابل الحفاظ على بقائهم في السلطة.

ومِن مآثر هذه الحرب أنّها لم تبدّد زيف تلك المقولة وتقسم الصف العربي بين داعم لـ"إسرائيل" ومقاوم لها، فحسْب، بل إنها قسمت العالم أيضاً فاصطفّت الشعوب الحرّة، بحسّها الإنساني السليم، إلى جانب تحرّر فلسطين من الاحتلال الصهيوني ـ الغربي الجاثم على أرضها والمُطبِق على شعبها، بينما وقفت حكومات هذه الشعوب صفّاً واحداً وراء "إسرائيل"، رافعةً عياناً بياناً لواءَ الصهيونية العالمية.

لم يسبق للصهيونية أن اكتسبت قوّةً دبلوماسية ومالية وإعلامية وسياسية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية مثل هذه القوّة التي اجتمعت لها على جميع الصعد، منذ أن شهرت في وجه العالم، مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية، سلاحَ "معاداة السامية" بحجّة المجازر التي تعرّض لها اليهود في ألمانيا النازية. فسلاح "معاداة السامية" أُضيف إلى أسلحة أُخرى (النظام العالمي والمؤسّسات الدولية والأممية التي أنشأتها وفي مقدّمها مجلس الأمن، والمؤسّسات المالية المتحكّمة باقتصادات الدول) حصّنت بها الدول الغربية انتصارَها في تلك الحرب لضمان هيمنتها على العالم، وسيطرتها على موارده وثرواته ولا سيما في المنطقة العربية الزاخرة بالمواد الأوّلية والثروات الطبيعية.

بهذا السلاح نجحت الصهيونية العالمية في دقّ الوتد الإسرائيلي في قلب المنطقة العربية، فلسطين. في الوقت نفسه نجحت الصهيونية العالمية ("إسرائيل" + الدول الاستعمارية الغربية وفي مقدّمها الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا) في تنصيب حكّامٍ لهذه المنطقة راضين بنهب ثروات شعوبهم، لقاء تمتّعهم ببذخ السلطة واستبدادها، وموالين لـ"إسرائيل" في الخفاء، زاعمين بأنّهم حُماة العروبة والإسلام.

بهذه الحرب سقطت أقنعة كثيرة وتجلّت حقائق كثيرة، وكما في كل الحروب الطويلة والعريضة فإن عمليات الفرز والاصطفاف في هذا الجانب أو ذاك من الحرب تجري ببطء. فبعد أن برز إلى العلَن موقع بعض الحكّام العرب في المعسكر الذي تقوده "إسرائيل"، في وجه المقاومة التي تقودها غزّة، بادر الملك الأردني إلى تزويد "إسرائيل" بالخضار والفواكه، لكسر الحصار البحري الذي فرضته اليمن على "إسرائيل"، وسارع حكّام الإمارات إلى دعمها بالسلاح والمال والمواقف الدبلوماسية في المحافل الدولية، وكذلك فعل الرئيس المصري والعاهل السعودي، فالأوّل منَعَ وصول المساعدات إلى أهل غزّة، وشَرَعَ في حفر قبور لهم في رفح لدفنهم بعد الهجوم الإسرائيلي عليها، والثاني حرص على حُسنِ سير قوافل الدعم الغذائي واللوجستي، برّاً من السعودية إلى "إسرائيل" مروراً بالإمارات والأردن.

قُسم العالَم فاصطفّت الشعوب الحرّة إلى جانب تحرّر فلسطين

أمّا "الرئيس" الفلسطيني فقد حافظ على موقفه الثابت: التنسيق الأمني مع "إسرائيل"، وتنفيذ مهمّات اعتقال ناشطين فلسطينيّين في الضفّة الغربية. وكما تبيّن كذب هؤلاء الحكّام وخيانتهم لشعوبهم، تبيّن كذلك كذب الدول الغربية على شعوبها وافتضاح مزاعمها حول الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة وحقوق إنسان.

خطوط النار بارزة على امتداد العالمين العربي والغربي في هذه الحرب. وهي حرب بين الصهيونية التي تريد الاستيلاء على العالم وإخضاعه وفقاً لرؤيتها ومخططها، وبين أحرار العالم حفاظاً على إنسانيتهم وحريتهم السياسية والاقتصادية؛ غير أنّ المأساة الفعلية فيها ليست فقط في معاناة الفلسطينيّين الذين يقاتلون ويضحّون من أجل حرية الشعوب العربية قاطبةً، وليس من أجل حريتهم وحدهم، بل هي في كون هذه الشعوب "مغلوباً على أمرها" (كما يقول بعضهم) و"شعوباً منافقة تصلّي وتصوم وتحجّ وتعتمر وتبكي خشوعاً، لكنّها تصفّق للباطل وتنتصر للرذيلة وتغضّ الطرف عن الاستبداد، فلا تنصر مظلوماً ولا تردّ ظالماً" (كما يقول آخرون). 

حقيقة هذه الحرب هي أنّ بؤرة النار فيها فلسطين وبالأخص غزّة، لكن نطاقها واسع باتّساع العالم كلّه: معظم الأوروبيّين يرون في حرب "إسرائيل" على الفلسطينيين استئنافاً لحروبهم على العرب التي توقّفت منذ تحرير الجزائر وتقسيم التركة العثمانية إلى ولايات مستقلّ بعضها عن بعض، وتنصيب شرطي يُدعى "جامعة الدول العربية" مهمّته مراقبة هذا "الاستقلال" ومنْع أي تقارب اقتصادي أو سياسي ينشأ بين "الولايات" العربية "المستقلّة"، تؤازره في مهمّة المراقبة والمنع هذه قوّة ضاربة هي "إسرائيل" نفسها. 

اصطفاف الحكومات الأوروبية في الحرب إلى جانب "إسرائيل" يقف ضدّه معظم الشعوب الأوروبية التي يزداد وعيها اتّضاحاً بأنّ جيوش العاطلين عن العمل والفقر المتزايد تدرك أنّ المؤسّسات الرأسمالية العالمية التي تتحكّم في المسار الرأسمالي العالمي هي في قبضة الرأسمالية الصهيونية (بشهادة جاك أتالي في كتابه "اليهود والعالم والمال". راجع: Jacques Attali, Les Juifs, le Monde et l'Argent)، وأنّ أيّ عاطل عن العمل لن يجد عملاً في بلده، بخاصّة في المناصب الرفيعة السياسية والإعلامية والمالية، إن لم تكن الصهيونية المتحكّمة في بلده راضيةً عنه؛ على أنّ سيف "معاداة السامية" يبقى مسلّطاً على عنقه فيُطرَد من عمله ويُشهَّر به إن صدرت عنه أيّ كلمة نقد لـ"إسرائيل" (كما فعلت الصهيونية العالمية مع الأمين العام للأمم المتّحدة ومع رئيسة جامعة هارفرد...) فمعاداة السامية سلاحٌ ما زال ماضياً وفعّالاً!

أفليس من العجب العُجاب أن يكون ما تعرّض له يهود ألمانيا من عذابات على يد النازية هو وحده المجزرة التي يجب أن تُخلَّد في تاريخ البشرية المليء بالمجازر التي تفوقها وحشية وفظاعةً، وأن تظلّ الصهيونية باسم تلك المجزرة تُحاسب عليها العالَم بأكمله، وتبتزّه وتطلب منه الركوع والاستغفار وطلب الرحمة كي لا يقطع سيف "معاداة السامية" رأس كل من لا يخضع ويركع؟! أفلا يدعو إلى الحيرة والدهشة والذهول أن يتحوّل الناس إلى عبيد أمام الصهاينة خوفاً من مقصلة "معاداة السامية" المسلّطة فوق رؤوسهم؟

والحق، إنّ "إسرائيل"، التي تتّهم الآخرين بمعاداة السامية، هي المعادية للسامية، فهي تنتحل صفة السامية التي ليست لها، بل لنا نحن، الفلسطينيين وأبناء المنطقة العربية جمعاء، أبناء السامية وأهلها؛ أمّا هُم فأوروبيون سلاف ولاتين وجرمان وغوليون...

منذ زمن والصهيونية تستعد وتحشد قواها لهجوم كاسح من أجل كسب زمام السيطرة على العالم وقيادته، وهي لأوّل مرّة في التاريخ الحديث تجتمع لها أسباب القوّة المتمادية التي باتت تمتلكها؛ يشهد على ذلك المفكّر اليهودي إسرائيل آدم شامير الذي يرى في كتابه "الجنّة" أنّ اليهود سيطروا على وسائل الإعلام والسينما فتمكّنوا من تحويل الناس إلى بهائم مدجّنة، وأنّ 50% من كبار المجرمين في أميركا يهود، ويطالب "العقلاء في هذا العالم بإيقاف الوحش قبل فوات الأوان، وبإقامة دولة ديمقراطية واحدة تشمل اليهود والفلسطينيين، حتى لا تصبح الأرض قاعاً صفصفاً".

وكتاب "الجنّة" دراسة في التكوين النفسي والديني والتصوّري للشخصية اليهودية بناءً على ما ترمز إليه كلمة "الجنّة" ومعنى "الشعب المختار" وصلاحياته في قيادة العالم والتحكّم فيه، كما هو واردٌ في الكتاب الديني اليهودي "الكابالا".

كما يرى شامير في كتابه الآخر "الوجه الآخر لإسرائيل" أنّ "إسرائيل" ليست تلك المحصورة في أرض فلسطين، بل هي "إسرائيل" المترامية الأطراف على امتداد العالم في الولايات المتّحدة الأميركية وفي الدول العربية والدول الأوروبية. لذا، يمكن اختصار الحرب الصهيونية العالمية الأُولى بأنّها حرب أحرار العالم ضدّ كلّ أشكال التسلّط الصهيوني في جميع أنحاء العالم.

عندما كنتُ في مدينة إشبيلية في مؤتمر الشعر الذي نظّمه أدونيس وبدي المرابطي (9 - 17 شباط/ فبراير 2024)، تجوّلتُ كثيراً في ساحات هذه المدينة الأندلسية وشوارعها وأزقّتها وعاينتُ ما تركه العرب فيها من عمران ورقيّ وحضارة، وقلتُ: نحن هنا الآن في الأندلس نبكي على بلادنا المدمّرة هناك، كما بكى أبو عبد الله محمد الثاني عشر على إرث أجداده، بحسب الرواية الشعبية التي تقول إنّه بكى في المكان الذي ألقى منه نظرته الأخيرة على غرناطة، وما زال معروفاً باسم "زفرة العربي الأخيرة" (el último suspiro del Moro)، فقالت له أمّه عائشة الحرّة: "ابكِ مثل النسا مُلكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال"، فهو سلّم غرناطة لفرديناند وإيزابيلا، كما يريد لنا العرب الصهاينة اليوم أن نسلّم بلادنا لـ"إسرائيل": وكما كان سقوط غرناطة سقوطاً لكلّ الأندلس، فإنّ سقوط غزّة - هذا إذا سقطت - سيكون سقوطاً لكلّ العواصم العربية، وأولاها القاهرة. غير أنّ الحرب الصهيونية العالمية الأُولى هذه ستكون الحرب العالمية الصهيونية الأخيرة، لأنها ستنتهي آجلاً أو عاجلاً بهزيمة محقّقة، لن تقوم لها قائمة من بعدها. 


* باحث ومترجم لبناني مقيم في باريس

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون