في الخامس عشر من نوفمبر الماضي/ تشرين الثاني غادرت شاحنتان كبيرتان مَرافق "متحف الفن الوطني الأوكراني" في كييف، متوجّهتين إلى الحدود البولندية، ومنها عبوراً لغرب القارّة الأوروبية، وصولاً إلى إسبانيا.
كانت الشاحنتان تحملان العديد من اللوحات التي تضمّنت مجموعة المتحف الدائمة، وقد صفّها ووضّبها مختصّو المتحف في الشاحنتين طيلة ساعات، في ظروفٍ تناوبت فيها موجات القصف مع موجات انقطاع الكهرباء والبرد.
حتى نهاية إبريل/ نيسان المقبل، تُعرَض هذه اللوحات -البالغ عددها نحو السبعين- في "متحف تيسن بورنيميسا" في مدريد، في معرض يحمل عنوان "في قلب العاصمة: الحداثة في أوكرانيا، 1900 ــ 1930".
ويمثّل المعرض فضاءً لتقديم جانب من أبرز مراحل تطوّر الفن الأوكراني، خلال العقود الأولى من القرن الماضي، كما يمثّل وسيلةً، في الوقت نفسه، لحفظ هذه الأعمال من الغارات الروسية التي لا توفّر هدفاً، من مستشفيات التوليد وحضانة الأطفال إلى دور العجزة والمتاحف الفنّية.
وتُعطي الأعمال المعروضة صورةً عن الحِراك الفنّي الذي عرفته البلاد بين نهايات القرن التاسع عشر ومنتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث تُبرز اللوحات تنوّعاً يشمل مدارس مثل المستقبلية، والتكعيبية، والتفوّقية (أو السوبرماتية)، إلى جانب أعمال أكثر واقعيةً أو استعادةً لتقاليد الرسم التي كانت سائدة في البلاد منذ النهضة.
كما تمثّل الموضوعات التي تتناولها اللوحات، والسياقات التي وُضعت فيها، مدخلاً تاريخياً إلى هذه الفترة من الزمن، شديدة الكثافة والتقلّبات، التي عاشتها أوكرانيا في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي، حيث تتابعت، خلال سنوات قليلة، نهاية الإمبراطورية الروسية، والحرب العالمية الأولى، واستقلال أوكرانيا، الذي لم يدم طويلاً، حيث جرى ضمّها إلى الاتحاد السوفييتي.
ومن التجارب البارزة التي يمكن لزوّار المعرض اكتشافها، تجربة الفنان أوليكساندر بوهومازوف (1880 ــ 1930)، الذي يجمع بين رغبته في تناول موضوعات ملتزمة، مثل كفاح العمّال ويومياتهم، وبين تجديده على مستوى الشكل واللون، مقترحاً لوحةً تأخذ من المستقبلية والتكعيبية في الوقت نفسه.
ومن هذه التجارب أيضاً، وربّما أبرزها، أو أكثرها تأثيراً في مسار الفنون الأوكرانية على الأقل، تجربة ميخايلو بويتشوك (1882 ــ 1937)، الذي يحمل اسمَه تيّارٌ فنّي (البويتشوكية)، كما أنه عرّاب ما يُعرَف بتيّار "التجديد البيزنطي" في بلاده، والذي رأى ضرورة استلهام الفن الحديث والمُعاصر من الجذور الفنّية البيزنطية، حيث تستعيد لوحات بويتشوك أساليب الفسيفساء البيزنطية، ولا سيّما في بورتريهاته التي تذكّر بالأيقونات المسيحية، وكذلك في تخلّيه في بعض الأحيان عن المنظور وتبنّيه للوحة ذات البُعد الواحد التي كانت سائدة ما قبل الحداثة.