"الحاجّة صيصة" المصرية وأخواتها في البلقان

22 مارس 2023
إحدى "العذراوات تحت القسم" في كوسوفو عام 2006 (Getty)
+ الخط -

مع الإعلان عن المسلسلات الجديدة المنتظرَة لشهر رمضان، الذي أصبح محوَر الإنتاج الفنّي على مدار العام، ظهرَت قضيّةٌ جديدة حين كشف فريقُ المسلسل المصري "تحت الوصاية" (إخراج محمد شاكر خضير، وتأليف خالد وشيرين دياب، وبطولة منى زكي) أنّه استلهم حياة "الحاجّة صيصة" التي سرعان ما طالبَت بمبلغ ضخم مقابل ذلك.

ومع أنّ "الحاجّة صيصة" كانت قد خرجت من العتمة التي عاشت فيها لقرابة خمسة وأربعين عاماً لتُكرَّم في 2017 بلقب "الأمّ المثالية" في مدينة الأقصر، إلّا أنّ الدور الحقيقي الذي لعبته في مسرح المجتمع (دور "المسترجلة") عاد ليُلهلم الآن مسلسل منى زكي، ويكشف عن الظروف وراء هذه الظاهرة التي عُرفت أيضاً في بعض مناطق أوروبا، ولا تزال بقاياها موجودةً حتى الآن.

تُعامَل الفتاة كرجُل بناءً على قسَم أمام مجلس القرية

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ السيّدة صيصة أبو دوح النمر نشأت في صعيد مصر وتزوّجت وفق التقاليد، ولكنّ وفاة زوجها المبكرة، عندما كانت في الواحدة والعشرين من عمرها، تاركاً إيّاها مع ابنتها الطفلة، جعلها تُفكّر في حلّ غير تقليدي لكي تحمي نفسها وتحافظ على ابنتها بكرامة: التخلّي عن زيّ النساء وارتداء ملابس الرجال ومنافستهم في سوق العمل، وهو استمرّت فيه إلى أن اكتُشفت وكُرّمت. ولكنّها أصبحت الآن تحظى بالتقدير والاحترام؛ كأمّ، وليس كممثّلة لظاهرة معروفة في المجتمعات البطريركية.


في قلب أوروبا

في الواقع، تعود ظاهرة "العذراوات تحت القَسَم" أو "المسترجلات" في قلب أوروبا إلى القرون الوسطى، وقد استمرّت لاحقاً في بعض مناطق غرب البلقان؛ مثل: دالماسيا، والبوسنة، والجبل الأسود، وألبانيا، وكوسوفو، ومقدونيا، لتنحسر بسرعة في القرن العشرين بسبب التغيّرات المتسارعة مع ظهور الدول القومية ثم الشيوعية وأخيراً الديمقراطية الحالية. ومع ذلك، لا يزال لدينا الجيل الأخير ربما من هذه الظاهرة المثيرة، والذي قد يضمّ قرابة مئة امرأة "مسترجلة" في المناطق الجبلية لألبانيا والجبل الأسود وكوسوفو.

وهنا، يمكن القول إنّ هذه الظاهرة هي نتيجة المجتمع البطريركي الذي تكرَّس خلال قرون بواسطة القانون العرفي الذي تكاملت بنودُه في القرن الخامس عشر واشتهر باسم "قانون الجبال" أو "قانون لك دوكاجيني"، وبقي يحكم المجتمع الألباني حتى القرن العشرين. وحسب هذا القانون، تحظى البنت بحضور في بيت أهلها، ولكنها عندما تتزوج وتنتقل إلى عائلة زوجها تفقد الكثير من حقوقها وتصبح مجرّد متاع للزوج وخادمة في البيت الجديد؛ حيث لا يحقّ لها الجلوس مع الرجال، ولا امتلاك أرض باسمها، ولا حمل السلاح، ولا شرب الدخان وكلّ ما يميّز الرجال في المجتمع البطريركي.

أثارت الظاهرة الرحّالة الذين زاروا البلقان في القرن 19

ولذلك، فإنّ التحوُّل نحو "عذراء تحت القسَم" أو "مسترجلة" يمكن أن يكون برغبة من الأب والأمّ حين يُدركان أنّه لا يوجد ذكر في الأسرة يحميها في المستقبل، ولذلك يختاران إحدى البنات لتقوم بهذا الدور، أو أن يكون الدافع من الفتاة نفسها التي تأبى أن تلقى مصير أترابها بعد الزواج.


للقسَم أهمّيتُه

في هذه الحالة، كان التقليد يقضي بأن تقوم الفتاة بحلف اليمين أمام مجلس من كبار أو حكماء القرية (يتألّف من 12 شخصاً). وبعد ذلك يُسمح لها أن ترتدي ملابس الرجال، وأن تتّخذ لنفسها اسماً مذكّراً، وأن تحمل السلاح على جنبها، وأن تدخّن، وأن تعمل كالرجال، وأن تكون "ربّ أسرة" وتمثّل الأسرة في مجالس الرجال، وحتى أن تُعامَل معاملة الرجال في الأخذ بالثأر؛ وهي العادة الشائعة في المجتمعَين الصعيدي والألباني.

ففي العادة، يكون القتل للرجال وأخذ الثأر من رجال الأسرة الممتدّة أو العشيرة، أي أنّ النساء لا يُستهدفن، ولكن لو تعرّضت "مسترجلة" للقتل فإنّها تُعتبَر رجلاً ويُطالَب بدمها على هذا الأساس. وفي هذا المجتمع، فإنّ القسَم له أهميّته، ولذلك لا يمكن لـ "عذراء تحت القسم" أو "مسترجلة" أن تتخلّى عن عذريتها أو استرجالها، حيث يمكن أن تُدان بالقتل إذا خالفت قسَمها أمام مجلس الحكماء في القرية. ولكن يمكن في حالات معيّنة ألّا يطبِّق المجلس هذه العقوبة إذا رأى أنّ الظرف الذي دفع إلى ذلك لم يعُد موجوداً.


في الرواية والسينما

بقي البلقان بالنسبة إلى أوروبا الغربية بمثابة "أميركا الأوربية"؛ أي الجزء المجهول الذي لم يُكتشَف بعدُ في هذه القارّة. ولذلك، فقد لفتت هذه الظاهرة الرحّالة الذين غامروا وجاؤوا إلى هذه المناطق الجبلية في غرب البلقان وكتبوا عنها فيما نشروه في القرن التاسع عشر، ولكنّ الاهتمام زاد في القرن العشرين حينما "انكشف" البلقان وظهرت فيه الدول القومية ثمّ الشيوعية.

ومن المصادفة أنّ يوغسلافيا شهدت، في السنة الأخيرة من حياتها (1991)، إنتاج وعرض فيلم "فرجينا" للمخرج اليوغسلافي سرجان كارانوفيتش S .Karanović (1945)، والذي تناول هذه الظاهرة باعتبار أنّ بقاياها كانت لا تزال موجودة في جنوب يوغسلافيا، وبالتحديد في الجبل الأسود وكوسوفو ومقدونيا.

ومن المثير هنا أنّ ألبانيا، التي عرفت أكثر الأنظمة الشيوعية تطرُّفاً خلال 1945 - 1990، بقي فيها أكبر عدد من "العذروات المُقسِمات" أو "المسترجلات"، وهو ما ألهم الجيل الجديد من الكتّاب بعد الانتقال للديمقراطية أن يتناولوا هذه الظاهرة في أعمالهم. ومن هؤلاء الكاتبة الألبانية الإيطالية المعروفة إلفيرا دونس E. Dones التي وُلدت في ألبانيا عام 1960 وهاجرت إلى إيطاليا، حيث أصبحت تكتب وتنشر بالإيطالية والإنكليزية. ومن ذلك كانت روايتها "عذراء تحت القسم" التي صدرت في لندن بالإنكليزية عام 2014، ثم قامت المخرجة الإيطالية لاورا بيسبوري L. Bispuri بتحويلها إلى فيلم بالعنوان ذاته في 2015.

وضمن الاهتمام الجديد بهذا الموضوع في الصحافة الأوروبية والأميركية، نشرت الروائية الأميركية كريستوفر دوكس K. Dukes في 2017 روايتها "العذراء تحت القسم"، والتي تناولت فيها تجربة فتاة في جبال ألبانيا الشمالية مطلعَ القرن العشرين، تقوم بأداء القسَم لتأخذ دور أبيها الذي قُتل ضمن عمليات الأخذ بالثأر التي كانت شائعة في المجتمع الألباني آنذاك.
ومن هنا، قد يكون من المناسب ترجمة الروايتين من الإنكليزية إلى العربية للتعرُّف على معاناة أو تجربة أخوات "الحاجّة صيصة" المصرية في أوروبا.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون