إثر كلِّ إعلان لنتائج جائزة أدبية، يخلص المتابع إلى مقولة مفادها انتهاء عهد الانشغال بالكتابة، وبدء عهد الانشغال بجوائزها ومكافآتها. وهذا قول، في ظاهره، مبالغ به. لكن فيه الكثير من الواقع؛ فالكتابة، بالصورة التي نعرفها، يبدو أنَّها تُنازع، لأنّ القارئ انشغل عن الأدب والتفت إلى بُعدٍ آخر، يظهر لصيقاً بعالم الأدب، لكنّه في الجوهر مختلف عنه. وقد خُدع القارئ تحت ستار التسويق والجوائز وكُتَّاب العلاقات العامَّة، وهُم الصنف الرائج في غياب النقد، وغياب الفضاءات الحقيقية للنشر.
إنْ كانت الجوائز في جوهرها احتفاءً بالكتابة الجيّدة، فهذه بداهة يوجد مَن يناقضها بالقول إنَّ الجوائز انعكاسٌ لسياسات الأدب التي قد تنتصر لنوعٍ أدبي دون آخر، وقد تنتصر ضمن النوع الأدبي نفسه، لبلدٍ ما، لجغرافيا ما، لموضوعات بعينها، وتحيدُ عن أخرى. لكنّ الحديث بمجمله رجمٌ في الغيب؛ إذ لا يوجد في قوانين أي جائزة ما يشيرُ إلى تعصُّبها، أو إلى تبنّيها تيّاراً بمعزل عن الآخر. وأقصى شروط بعض الجوائز هي سنة النشر، عدد الكلمات، عُمر المؤلّف.
عدا ذلك، لا نرى في أي جائزة ما يشير إلى سياسات مموّليها، أو إلى السياسة بالمبدأ. مع أنَّ الأدب في عالمنا يدور في حقل السياسة؛ تجنِّده الأنظمة والأحزاب لخدمة أهدافها. وكثيراً ما لعب الانتماء السياسي للفنَّان دوراً في تسويقه ضمن حزبه، ويوجد مَن بنى شهرته عبر الحديث باسم قضية قد يتبنّاها جمهورٌ أكبر.
لكنّ الواقع اليوم أكثر ضبابية، مع غياب القضايا الكبرى التي قد يلتمّ من حولها جمهورٌ عريض. القضايا التي تمسَّ وجدان القارئ أصبحت مسائل فردية، تعني تجربة الفرد نفسه، تجربته الوجودية أو العاطفية، لا تلك التي تهمُّ حزباً أو نظاماً. وعدا ضبابية سياسات الأدب، يخضع استقبال نتائج الجوائز الأدبية إلى ضبابية لا تقلُّ تمثيلاً بجسد الكتابة، وفتكاً به. وهي الأمزجة المختلفة للكتَّاب. ببساطة؛ الجائزة التي لا أنالها هي جائزة غير نزيهة. هذا حال عدد من الكتَّاب الذين لا يخفون حرقتهم أمام قرَّائهم؛ الأمر الذي ينعكس على استقبال الأدب ككلّ.
نشرُ كتاب هو الحدث الذي ينتظر الاحتفاء، لا نيله جائزة
في الأيام الفائتة، أعلنت "جائزة كتارا للرواية العربية" سابقةً؛ وهي قائمة من 120 رواية. وهي سابقة في اقتصار الروايات على عام واحد؛ إذ في عام 2000 أعلن "اتّحاد الكتّاب العرب" قائمة بمئة عمل عربي عن قرن من الكتابة. وقد ضمَّت آنذاك نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وخيري شلبي وصنع الله إبراهيم وعبد السلام العجيلي، وأسماءً صنعت الرواية العربية المعاصرة، باختصار.
لكنْ مجدَّداً، المسألة التي تشغلني ليست قائمة "كتارا"، وإنَّما ذلك السباق المحموم والمستعِر للحديث عن الجوائز. وكأنَّما ليست الكتب الـ120 هي التي تنتظر القراءة، وكأنَّما ليست الأسماء التي لم تجد تسويقاً لها ضمن الفساد الثقافي في البلدان العربية ــ على اختلاف قتامته بين بلدٍ وآخر ــ هي التي تنتظر أن تُقرأ، وأن تبني خطوة في مشوارها الأدبي، وتنتظر التفاتة قارئ أو ناقد.
يمكن أن تصوِّر الجوائز حالاً من أحوال النقد. لكنّها ليست كلَّ المشهد. ويمكن لمَن ينشغل فعلاً بسوية الرواية العربية أن يَقرأ. هذه هي المكافأة التي ينتظرها أيُّ كاتب عند تقديمه للجوائز؛ إنَّه يريد أن يُقرأ في زمن عزَّت فيه القراءة. ويمكن/ تلخيصاً للحديث ذي الشجون، أن نحكي عن الكتب التي نحبُّها، أن ندعم المشاريع التي نرى فيها ما يجدر بالمتابعة. لكنني أخالُ أنَّ مذهباً من الكُتَّاب لا يقرأ إلّا نفسه، ولا يرى في عالم الأدب الشاسع، برمّته، سِوى انعكاسٍ لتضخُّم الأنا، ولاغترابها عن المشاغل الحقيقية للكتابة. في النهاية، الحدث الذي ينتظر الاحتفاء هو حدث إصدار الكتاب، لا حصوله على الجائزة.
* روائي من سورية