استمع إلى الملخص
- الرئيس الصربي ووزير الخارجية قادا حملة في نيويورك لمنع دعم القرار، معتبرين نتيجة التصويت انتصارًا أخلاقيًا لصربيا، وانتهى التصويت بانقسام الآراء بين الدول الأعضاء.
- القرار المتمرير يؤكد على استهداف المسؤولين عن الإبادة ويدعو للتثقيف لمنع تكرارها، مع التحديات المتمثلة في مواجهة النزعات القومية وتمجيد مجرمي الحرب.
كان الثالث والعشرون من أيار/ مايو الجاري يوماً مشهوداً، نظراً لما سبقه في الأسابيع الأخيرة من محاولات محمومة لإغراء أو ابتزاز دول للتصويت، سواء مع القرار أو ضدّه، وما لحقه من تعليقات مؤيّدة ومعارِضة لدول لديها "حساسيات" من تعبير "الإبادة الجماعية" في الوقت الذي تحدث فيه إبادة جماعية على الأرض في غزّة تجاوز عدد ضحاياها ما خسرته بلدة سربرنيتسا، مع توثيق ذلك بالصوت والصورة على عكس سربرنيتسا التي حُرمت من هذا "الامتياز".
كان يُفترض أن يجري التصويت في الثالث من أيار/ مايو. ولكنه تأجّل لإتاحة المجال أكثر لبعض التعديلات على مشروع القرار وإجراء المزيد من الضغوط على الدول المتردّدة على خانات التصويت لأجل هذا القرار "المستعجل" الذي يدعو إلى اعتبار يوم 13 تمّوز/ يوليو "يوماً عالمياً لتأمُّل وتذكُّر الإبادة الجماعية في سربرنيتسا عام 1995".
ربما كان من المتوقَّع أن يُطبخ هذا القرار على نار هادئة لكي يُمرّر في 2025 لمناسبة الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية في سربرنيتسا، ولكن كان من الملاحَظ أنّ بعض الدول استعجلت إقراره لأسباب معيّنة، وهو ما أثار معركة محمومة من جانب صربيا الرسمية (المستهدَفة) التي استخدمت كلّ علاقاتها لإفشال التصويت على مشروع القرار، ومن ذلك وصول الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش ووزير الخارجية ماركو جوريتش في وقت مبكر إلى نيويورك لممارسة أكبر قدر من "العلاقات العامّة" مع ممثّلي الدول الأعضاء في الجمعية العامّة.
في الوقت الذي تحدث فيه إبادة جماعية على الأرض في غزّة
كان الرئيس فوتيتش متّشحاً بالعلَم الصربي خلال جلسة التصويت، لكونه جاء "مدافعاً عن الشعب الصربي المتّهَم بالإبادة الجماعية"، وهو ما لم يرِد في مشروع القرار المعروض للتصويت، واعتبَر نتيجة التصويت "انتصاراً أخلاقياً" لصربيا، نظراً لكون "ثلثَي الإنسانية لم تصوّت للقرار أو امتنعت عن التصويت"، وهو ما جعل الصحافة الصربية ("داناس" وغيرها) تقارنه بالرئيس السابق سلوبودان ميلوشيفيتش "الذي كان يحوّل الهزائم إلى انتصارات".
وفي الحقيقة، كان لدينا ما يلفت النظر في تشتّت الأصوات بين أربعة خيارات. فقد صوّتت لصالح القرار 84 دولة وعارضته 19 دولة معروفة بسجلّها في انتهاك حقوق الإنسان؛ مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وسورية وكوبا ونيكاراغوا وغيرها، بينما امتنعت عن التصويت 68 دولة، وغابت 23 دولة عن جلسة التصويت تفادياً للإحراج، وعلى رأسها "إسرائيل".
ومن المفهوم أنّ الدول الممتنعة عن التصويت ليست معارضةً لمضمون القرار، ولكن كانت لها تحفّظات تتعلّق بعدم إشراكها في المبادرة منذ البداية وصفة الاستعجال الذي اتّسمت به، أو لديها مصالح خاصّة معلنة وغير معلنة مع صربيا. ولكن كان من الصعب تفهّم موقف بعض الدول العربية والإسلامية؛ فإيران صوّتت للقرار، ولكن لبنان والجزائر امتنعا عن التصويت، بينما غاب المغرب عن جلسة التصويت، وغير ذلك من المفارقات.
إدانة الأفراد وليس الشعوب والإثنيات
نظراً إلى أنّ القرار الذي فاز بالأغلبية لاختيار 13 تمّوز/ يوليو "يوماً عالمياً لتأمُّل وتذكُّر الإبادة الجماعية في سربرنيتسا 1995" لم يأت بجديد بتأكيده على أنّ ما حصل "إبادة جماعية"، لأنّ هذا حسمته سابقاً محكمة جنايات الحرب في يوغسلافيا السابقة التي أصدرت أحكاماً بالمؤبَّد على المسؤولين عن هذه الجريمة، كالجنرال راتكو ملاديتش وغيره، بل إنّه أكّد، بذلك، أنّ القرار لا يشمل شعباً أو إثنية (أي الشعب الصربي في جمهورية صربيا أو إثنية الصرب في جمهورية البوسنة والجبل الأسود)، وإنّما المسؤولين العسكريّين وشبه العسكريّين والسياسيّين الذين اتُهمّوا وأُدينوا لمشاركتهم في الإبادة الجماعية في سربرنيتسا.
في الوقت الذي تحدث فيه إبادة جماعية على الأرض في غزّة
ولكن الجديد هنا التأكيد في مشروع القرار على إدانة الإنكار للإبادة الجماعية والدعوة إلى تثقيف الجيل الجديد بما حدث من خلال الكتب المدرسية، لكي لا تكون هناك ثقافة مجتمعية تسمح بتكرار إبادات جماعية أُخرى.
ماذا وراء الاستعجال لإصدار القرار؟
كانت هناك مؤشّرات متزايدة للقلق إزاء ما يحدث في صربيا خلال السنوات الأخيرة لإعادة الاعتبار لمجرمي الحرب المسؤولين عن الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، وعلى رأسهم الجنرال راتكو ملاديتش قائد قوّات "جمهورية الصرب" في البوسنة خلال 1992 - 1995، الذي كان على صلة وثيقة بالمسؤولين السابقين والحاليّين في صربيا. ومع أنّ صربيا كانت دولة منبوذة حتى آخر أيام حكم سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي كشف تزويره للانتخابات عام 2000 عن انتفاضة أدّت إلى انسحابه من الحياة السياسية ووصول المعارضة إلى الحُكم، والتي تطلّعت إلى إخراج صربيا من عزلتها وانفتاحها على الاتحاد الأوروبي. ولكنّ رئيس الحكومة زوران جينجيتش الذي تجرّأ على تسليم ميلوسيفتيش لمحكمة جرائم الحرب في لاهاي في حزيران/ يونيو 2001 تعرّض للاغتيال من أجهزة "الدولة العميقة" في 12 آذار/ مارس 2003، وأُطلق اسمُه على الشارع الذي اغتيل فيه.
ولكن بعض شخصيات عهد ميلوشيفيتش، ومنهم الرئيس الحالي ألكسندر فوشتيتش، الذي تولّى وزارة الإعلام في عهده، عادوا إلى الحكم مستفيدين من الظروف الإقليمية الجديدة بعد 2014 لتعزيز شعبويتهم بواسطة الكنيسة والعلاقة التاريخية مع روسيا.
وهكذا بعد سنوات الحماسة للاندماج في الاتحاد الأوربي، بعد أن أصبحت صربيا دولة مرشَّحة ونالت مليارات الدولارات من المنح والقروض من بروكسل، بدأ الرئيس فوتشيتش سياسة شعبوية تُركّز على دور الكنيسة والصداقة التاريخية مع روسيا ورفض تطبيق العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا بعد غزوها أوكرانيا، كما تحفّظ على دعم "السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي"، وقام بانفتاح جديد على الصين أدّى إلى "زيارة تاريخية" للرئيس الصيني إلى بلغراد في أيار/ مايو الجاري وتوقيع 24 اتفاقية للتعاون في مختلف المجالات.
ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة، مع سيطرة النظام على معظم وسائل الإعلام، أن تتراجع نسبة التأييد للاندماج في الاتحاد الأوروبي إلى ما دون 50%، وأن تزداد نسبة المؤيّدين للعلاقة التاريخية مع روسيا.
ثقافة جديدةٌ تُعيد الاعتبار إلى مجرمي الحرب
كان ما يثير القلق في هذه التغيّرات والتوجّهات إعادةُ الاعتبار إلى مجرمي الحرب الذين أُدينوا في لاهاي لمسؤوليتهم عن الإبادة الجماعية في سربرنيتسا وغيرها، حيث أصبحوا يعامَلون كأبطال قوميّين. وفي هذا السياق برزت فجأةً جدارية كبيرة في أحد شوارع بلغراد للجنرال راتكو ملاديتش، ولمّا قامت الناشطة عايدة كوروفيتش برمي الجدارية بالبيض احتجاجاً اعتُقلت ووُضعت حماية للجدارية على مدى النهار والليل.
وفي هذا السياق، مع تصعيد التجييش القومي، صادق برلمان "جمهورية الصرب" في البوسنة والهرسك في 18 نيسان/ إبريل الماضي على تقرير يرفض اعتبار ما حدث في سربرنيتسا "إبادة جماعية"، كما وصفته محكمة الجنايات في لاهاي وأدانت على أساسه الجنرال راتكو ملاديتش وغيره.
وبعبارة أُخرى، كانت هذه التطوّرات المتسارعة الذي أصبحت تؤشّر إلى ترسّخ ثقافة قومية جديدة تُمجّد الجنرال راتكو ملاديتش وغيره باعتبارهم أبطالاً قوميّين وليسوا مجرمي حرب، وتمتدّ عبر حدود صربيا إلى المناطق المجاورة (البوسنة والجبل الأسود وكوسوفو) لتروّج لمشروع "العالم الصربي"، الذي هو اسم آخر لمشروع "صربيا الكبرى" الذي روّج له ميلوشيفيتش وقاد إلى سلسلة الحروب التي عصفت بيوغسلافيا السابقة.
ولكن الوعي الإقليمي/ الدولي بمخاطر ذلك كان سبّاقاً، ولذلك فقد صوّتت كلُّ دول البلقان إلى جانب القرار في الجمعية العامة، بما في ذلك جمهورية الجبل الأسود التي يُشكّل الصرب حوالي 30% من سكّانها.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري، وعضو أكاديمية العلوم والفنون في جمهورية البوسنة والهرسك