دأبت وزارة الثقافة المغربية في السنوات الأخيرة على الاستسلام لـ "السُّبات الشتوي"، وانتظار فصل الصيف لدعم ورعاية المهرجانات الثقافية والفنّية ذات الطابع الاحتفالي الصرف؛ وهي، كلّها، عبارة عن سهرات غنائية، وعروض فنّية متنوّعة، تتلاءم مع أجواء العُطلة والصيف، وتستهدف بالأساس السيَّاح المَحلّيين والأجانب، فتحطّم الرقم القياسي من حيث عدد الحضور، وتُنعش السياحة، وتنال اهتماماً في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي.
وحفاظاً على هذا الاهتمام، وجّهت الوزارة اهتمامها مؤخّراً إلى الموروث المحلّي، من خلال تنظيم مهرجانات تراثية جهوية، حتى أصبحت لكلّ جهة مهرجاناتها الخاصّة، التي تفتخر بها لكونها ترفع شأنها بين الجهات الأُخرى. ويكفي زيارة موقع وزارة الثقافة للوقوف على عددٍ هذه المهرجانات وشعاراتها التي تتجدّد كلّ عام، وهي تزدحم في شهرَي يوليو/ تمّوز وأغسطس/ آب، كما لو أنّ التراث المغربي لا تلمع عيونُه إلّا في عزّ الصيف وارتفاع درجة الحرارة.
هذا في الوقت الذي وسّعت الوزارة من دائرة نفوذها الثقافي، وبدأت تقتحم مواسم الفروسية (التبوريدة)، التي تُقام في القرى والبوادي، وذلك بعدما أدرجت ملفّ الفروسية، ضمن المكوّن التراثي المغربي، وغدَت تنظّم مُباريات وترصد جوائز مهمّة لأجوَد الخُيول والفُرسان. ومعلوم أنّ تاريخ المواسم في المغرب ارتبط برَأب الصَّدع، وتصفية الخواطر بين القبائل المُتنازعة حول الماء والكلأ، مثلما ارتبطت نهاية الموسم الفلاحي وجودته، بـ"ما جمعته النملة"؛ حيث ينصبُ السكان الخِيام في العراء فيأكلون ويركبون ظهور الخيل، ويُطلقون البارود في الهواء طوال ثلاثة أيام. ما أجمل الشعوب حين تحتفل وتُشهر سعادتها للريح، وما أخطر هذه الشعوب على الحكومات حين تجوع وتعطش فتصير حطباً احتياطياً لاحتجاجات الخبز والماء!
ولا شكّ في أنّ وزارة الثقافة على عِلمٍ بنسبة القراءة المتدنّية في المغرب، وبأن لا أحد يُريد أن يقرأ، وبأنّ أغلب المؤسَّسات التعليمية تفتقر إلى خزانة، وعلى علمٍ أيضاً بأن الجميع يهمُّه شراء الخبز أكثر من شراء اللوحة التشكيلية، وفي أحسن الأحوال على استعداد للرقص في العراء بصندل ممزّق وبطن فارغة على شراء كتاب. لذلك استبعدت من دائرة اهتمامها الشركاء التقليدّيين من كُتّابٍ وشعراء ومسرحيّين وفنّانين تشكيليّين، بعدما تعبت من تبرُّمهم، وانتقاداتهم التي لا تنتهي.
جدول صيفي مزدحم بمهرجانات أقرب للسياحة منها للثقافة
أُخمِّن أنّ هذا هو تفكير الوزارة، لذلك توجَّهت إلى البحث عن شركاء ومتعاونين موسميّين، وعن نجوم الغناء والرقص الذين عادة ما يُجفّفون الميزانية، بلا رحمة، ثم ينصرفون فيشكرون. وكان حريّاً بوزارة الثقافة أن تنضمّ لوزارة السياحة، أو يحدث العكس. المهمّ أن تُجمَع الوزارتان في حقيبة واحدة، ونربح وزيراً نفضّله أن يكون من صفّ المعارضة، ما دامت أنّه لا توجد معارضة حقيقية في المجلس الوزاري، ولا في المجلس الحكومي.
من جهتها، استوعبت المؤسّسات الثقافية التقليدية التوجُّه الجديد لوزارة الثقافة، فلجأت إلى أسلوب المُهادنة، وأحياناً إلى الصمت المُطبِق، وهي تتحسّس نقاط ضعفها، كما هو حال "اتحاد كتّاب المغرب"، الذي دخل في وضعية غير قانونية منذ سبع سنوات، بعدما فشل في عَقْد مؤتمره التاسع عشر، فتعطّلت هياكلُه التنظيمية، وتجمّدت عضويّته في "اتحاد كتّاب العرب". وفي غضون ذلك، انسحب خمسة عشَر عضواً منه، احتجاجاً على ما وصفوه، بـ"العبث بتاريخ المنظّمة، ورغبة البعض في تحقيق مكاسب ضيّقة، والاستفادة من الريع الثقافي".
ومعلوم أنّ عبد الرحيم العلام هو من يشغل رئاسة "اتحاد كتّاب المغرب"، بعد انقلاب "تاريخي" على عبد الحميد عقار عام 2009. حينها، تحدّث العلام عن الديمقراطية والشفافية وتقاسُم المسؤوليات، مُطعِّماً كلامه بخطاب جمالي وفكري. غير أنّه قضى ولايتين مُتتاليتَين، مُدّتهما ستّ سنوات، بإنجازات مُتواضعة جدّاً، حتى لا نقول بلا إنجازات، ويُفهم من كلامنا أننا نُعادي الرّجل الذي ننتقده هنا من موقع مسؤوليّته على ما آل إليه الاتحاد، حين فضّل الدخول في "الحريك القانوني" منذ 2015، رافعاً شعار "أنا أو لا أحد"، على عادة جميع الانقلابيّين في العالم. لا نريد أن نُشبّه العلام بالنقيب إبراهيم تراوري الذي قاد مُؤخّراً انقلاباً خاطفاً في بوركينا فاسو، وفرض نفسه رئيساً للبلاد بالرصاص، ولكن نستغرب من تعسُّفه على القانون، والتشبُّث بالرئاسة، والدخول في متاهات المحاكم، وكتابة البيانات والبيانات المضادّة، وهو أستاذ القانون الدستوري.
مطلوب من العلام، ورفاقه المُتبقّين، تسهيل مهامّ أعضاء اللجنة التحضيرية التي أفرزها "مؤتمر طنجة"، الذي عُلّقت أشغالُه بسبب خلافات حادّة بين المؤتمرين، وذلك من أجل الإعداد للمؤتمَر الاستثنائي، وانتخاب مكتبٍ نزيه بالشروط الديمقراطية، على أمل إعادة تشغيل مصابيح الاتحاد المُعطّلة، وهو المؤسّسة التي ارتبط تاريخُها باليسار الثقافي، وشكّلت منبراً للدفاع عن الفعل الثقافي، وتنزيل الشروط الديمقراطية، وكانت في صلب الجدل الثقافي بين المشرق والمغرب، ولها مُساهمة أساسية في أنشطة "اتحاد كتّاب العرب".
ربّما هناك تفاؤل مع "بيت الشعر" في المغرب، الذي يعيش استقراراً في هياكله التنظيمية، لكن ما زال يُنظر إلى أنشطته على أنها نُخبوية وأكاديمية، كما أن المجلّة الصادرة عنه، التي تُوزّع أعدادُها في الصالونات المخملية كما لو أنها "سيغار كوبي"، لا يتّسع صدرُها للتجارب الشعرية الجديدة، وركنت إلى تدوير الأسماء المُكرّسة.
في رحاب الشعر دائماً، ولو أنّ الشعر وحده لا يمثّل الثقافة في تنوّعها وتعدُّدها، يُمكن أن نتفاءل أيضاً مع ما يقدّمه الشاعر عبد الحقّ ميفراني في "دار الشعر" بمراكش جنوبي المغرب، بموازاة جهود الشاعر مخلص الصغير في "دار الشعر" بتطوان في الشمال، حيث استطاعت الدار بضفّتيها الشمالية والجنوبيّة أن تنفُضَ الغبار عن المجهول من الشعر المغربي، وأن تُناقش الشعر في علاقته بالفنون الأدائية، مثل الموسيقى والمسرح، فضلاً عن تنظيم ورش في الكتابة الشعرية، وجوائز قيمية للديوان الشعري ونقد الشعر.
هذا في الوقت الذي حادَت دُور الشباب عن دَورها التثقيفي والتكويني، وتحوّلت إلى مكان لحفلات نهاية الموسم الدراسي وأعياد الميلاد. أما الجمعيات الثقافية التي تدور في فلَك دُور الشباب، ويصعب رصد عددها، فأغلبها تابعٌ لوزارة الداخلية، وتحت سلطة الباشوات، مثلها مثل المساجد... تروّج للثقافة الناعمة، وتشوّش على الثقافة الجادّة، بل تُشكّل درعاً انتخابياً لأحزاب اليمين ولُصوص المال العام.
مُشكلة الثقافة في المغرب لا تتحدّد فقط في سوء تدبير الشأن الثقافي، وهشاشة الهياكل التنظيمية للمؤسَّسات الثقافية، بل في بعض الأفراد و"الرموز الثقافية" إن صحّ التوصيف، والذين يتحكّمون في أرض الثقافة وسمائها منذ التسعينيات؛ يتحكّمون في المهرجانات والمجلّات الثقافية، وفي لجان "جائزة المغرب للكتّاب"، وفي الإقامات الأدبية، ويقدّمون شهادات زُور بخصوص الأجيال الجديدة، بالإضافة إلى البيروقراطية الثقافية، حيث يقتصر التداوُل الثقافي على الشريط الرابط بين طنجة والدار البيضاء، مع استثناء يتمثّل في مراكش. والدليل على كلامنا هو واقع مندوبيات الثقافة الموجودة في مدن الهامش، والتي تظلُّ أبوابُها مُغلقة طوال السنة، بل صارت هذه المندوبيّات وجهة مُفضَّلة لموظّفي الوزارة الذين وجدوا أنفسهم في معترك الثقافة بحثاً عن الخبز، والذين لا يقتصرون على السُّبات الشتوي الذي تحدَّثنا عنه في بداية المقال، بل يُضيفون إليه سباتاً صيفيّاً.
* كاتب من المغرب