"الترجمة والرقمنة حاضراً": حوار الآلي والبشري

02 فبراير 2023
جانب من الندوة
+ الخط -

إذا كان مصطلح "الذكاء الاصطناعي" قد بات مألوفاً في تاريخ العلم منذ منتصف القرن العشرين، فإنه اكتسب شعبية أوسع منذ سنوات قريبة. ويكفي العلم أن قدرة وحدة المعالجة المركزية للموبايل الذي في جيبك تبلغ أضعاف قدرة الوحدة التي وضعها الإنسان في أوّل مكوك فضائي.

وبما أن الذكاء الطبيعي يواصل عمله في جعل الآلة تفكّر في كل مناحي الحياة التي توجد بها التقنيات، فإن الترجمة والرقمنة، وما يطلق عليها الترجمة الآلية، باتت أحد الانشغالات الكبرى عند اللغات المتقدمة، في حين أنها تعاني من ثغرات واضحة في لغات أخرى، من بينها العربية.

ولذلك كان هذا الذكاء الآلي مدار أربع أوراق بحثية في ندوة "الترجمة والرقمنة حاضراً"، ضمن مؤتمر "الترجمة وإشكالات المثاقفة" التاسع، الذي اختُتم الأحد الماضي في الدوحة.


مستجدات بمفاهيم قديمة
يقول غسان مراد، أستاذ الحوسبة اللغوية ورئيس "مركز الأبحاث والدراسات" في كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بـ"الجامعة اللبنانية"، إن اعتبار الترجمة علماً يفترض بمَن ينخرط فيها التعامل مع هذه التكنولوجيا، وإذا كانت مهنة يفترض بكل مَن يمتهنها إتقانها، لأنها تشكّل جزءاً من عمله، فلا يمكن معالجة مستجدات حديثة بمفاهيم قديمة.

غير أن ترْك هذا الأمر للمهندس التقني وحدِه يعني تركَها لمَن لا يعرف الترجمة، كما يواصل، مشيراً إلى أن الملخّصات التي وصلت للمؤتمر لم يكن من بينها سوى أربعة يمكن عرضها في هذه الندوة. وهذا دليلٌ، كما يرى المتحدّث، على عدم الاهتمام وعدم دخول الدراسات البينية في كلّيات الآداب والعلوم الإنسانية، إذ من المطلوب إدخال المعلوماتية الى هذه الكليات علماً لا زينةً، لأن المستقبل لمَن يجيد البرمجة.

ليست التكنولوجيا سُلطة، لكنّ استخدامها يعطيها السلطة

مستنداً إلى إحصاءات صدرت في كانون الأول/ ديسمبر 2022، عاين مراد نسبة حضور بعض اللغات على الإنترنت، ومنها الحاضرة في المؤتمر، فكانت ضعيفةً: أعلاها التركية التي بلغت 2.2%، وبعضها أقلّ من 0.1%. أمّا اللغة العربية، فكان حضور محتواها 0.9%، متراجعةً عن الرقم السابق قبل عامين: 1.6%.

وكما يلاحظ، لا يوجد تبادل رقمي معرفي لترجمات موجودة على شبكة الإنترنت، وبالتالي فإن الترجمة الرقمية تقع في أخطاء كبيرة، بينما الترجمة بين اللغات الفرنسية والإسبانية والألمانية والإنكليزية نجدها دقيقة بنسبة 95%.

وعليه، طالبَ المتحدّث بعدم ترك العمل للبرمجة الآلية للغاتنا غير الشائعة على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل قبل أن نعمل نحن عليها، لأن لكل لغة خصائصها. فالذكاء الاصطناعي الذي يحقق إنجازات لغوية، ليس ذكياً بل يوحي بأنه ذكي. وهذه النظرة من الباحث ليست حُكم قيمة على علم تنتشر تطبيقاته بشكل واسع وضروري.

الصورة
غسان مراد، خلال الندوة
غسان مراد، خلال الندوة

وهو يشرح أكثر بأن الآلة عندها سلوك ذكي وليس ذكاءً. والسلوك يعني التكرار وتقليد عمل الدماغ البشري (يتفاعل في كل مرّة نتحدث بها 100 مليون مرة في اللحظة)، أما الذكاء، فهو ابتكار.

ولكن بما أن مَن يترجم يلجأ إلى الترجمة الآلية بشكل شائع الآن، فقد دعا غسان مراد إلى التحرير والتنقيح البشري. فالتكنولوجيا موجودة و"علينا أن نتعامل مع كونها موجودة. هي ليست سُلطة، لكنّ استخدامها يعطيها السلطة".


شكلنةُ اللغة
شكلنة (أو صَورنة) اللغة العربية بطرق رياضية تتناسب مع ثقافة الحاسوب هو المجال الذي تناوله عز الدين غازي، الأستاذ الباحث في قسم الدراسات العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في "جامعة القاضي عياض" المغربية.

وتحت عنوان: "المنطقة المعتمة في التعابير متعدّدة الكلمات وتحدّيات الترجمة الآلية: معالجة معجمية آلية باستخدام التعلم العميق"، قال الباحث إن التعبيرات المتلازمة والمركّبة ومتعدّدة الكلمات تتميز بخاصية اللا-تأليف والتوزيع بين المفردات والتعتيم الدلالي الذي يقع في منطقة محدّدة في المتوالية المعجمية، والذي يطرح صعوبات جمّة وتحدّيات كبرى في الترجمة الآلية بصفة خاصة.

فقد أصبح التعرّف إلى المنطقة المعتمة في مقاربات علمية كثيرة المدخلَ الرئيس لفك الالتباس على مستوى التعبيرات المذكورة في مجال الترجمة، وتشمل هذه المنطقة غالباً الفعل وأحد مفعولاته، سواء المباشرة أو غير المباشرة، ويتحكّم في تحديد دلالتها الاستعمالُ والتداول، كما قال.

الصورة
عز الدين غازي
عز الدين غازي

وزاد على إجماع الباحثين أنْ فصّل عز الدين غازي في ضرورة تقديم الباحث اللساني والمهندس معاً مقاربات لفك اللبس الحاصل في هذه التعبيرات انطلاقاً من استخراج المنطقة الصمّاء. إذ ما زالت هذه المنطقة جاثمة على الترجمة وبات على المؤسّسات المختصة أن تساهم مباشرة في تطوير الأبحاث العلمية في هذا المضمار.

والأمر عنده، باختصار، يستلزم إعداد معاجم إلكترونية مستقلة حتى تيسّر هذه التعبيرات وتبني نظرية لسانية محدّدة تضع بيانات موصفة بشكل دقيق وحل المشكلات المطروحة على مستوى المعالجة الآلية، وبناء قاعدة معطيات لتعابير موسّعة، إلى جانب المفردات البسيطة، وكذا تقديم تصوّر شامل لهذه التعبيرات على المستوى الدلالي والمعجمي.

وضرب مثالاً على ذلك ممّا يُعرف في اللغة بالمسكوكات، عبارةَ "رفع عقيرته"، فهي تعبير عن شيء جرى اتّفاقاً ــ ولا معنى لاستحضاره لاحقاً ــ يصل بين الصوت والرِجل المعقورة.

علينا أن نقوم بأنفسنا ببرمجة لغتنا لأن لكل لسان خصائصه

كذلك الأمر في "شذَر مذَر" و"حيْص بيْص" و"مثْنى مثْنى"، و"سلِم ذقنه" و"عضَّ أنامله" و"قضى نحْبَه"، التي لا يمكن أن ندمج بين مكوّناتها، فلا نقول مثلاً "شذر (س) مذر"، إذ إن هذه التعبيرات، التي يصفها بـ"المتكلّسة"، لا يمكن لمنصّة ترجمة إلكترونية معالجتها إلّا إذا اعتمد المهندس ما يسمى بالمقاربة الإحصائية.

وطرح الباحث هنا ثلاثة سياقات للتعامل مع التعابير متعدّدة الكلمات: أوّلاً، ترجمة التعبير المسكوك من خلال مقابل مسكوك، وهذا يحتاج إلى المقاربة الإحصائية؛ وثانياً: ترجمة تعبير مسكوك من خلال تعبيرات مقابلة في اللغة الهدف، بما يسمّى الترجمة الدلالية، وهذا يحتاج إلى مقاربة لسانية؛ وثالثاً: تعبير مسكوك مقابل تعبير عادي، وهذه تحتاج إلى مقاربة عصبونية.


الترجمة الطبّية
مررنا خلال السنوات الأخيرة بجائحة كورونا، ومن بين ما تركته من آثار نتعرّف إلى ما حصل  في ميدان الترجمة الآلية والبشرية للنصوص الطبية. هذا ما تطرّقت إليه مداخلة مها مراد، الاختصاصية في علوم اللغة والتواصل في "الجامعة اللبنانية"، قائلةً إن مجال الترجمة من المهام التي يمكن إنجازها عن بُعد، متسائلة عن أهمية الترجمة الطبّية في هذا السياق. 

ويتطلّب هذا النوع من الترجمة معرفةً مضاعفة، لأن المعلومات الخاصّة به غير متوافرة سوى لدى المتخصصين، ولأنّ أي خلل في عنصر منها سيلحق ضرراً بحالة مرضية وسيؤثر في نمط حياة الإنسان.

ومع أن البرامج الإلكترونية تساعد في الأعمال الكتابية لجميع الخدمات التعليمية، إلّا أن المتحدّثة تحذّر من استخدام مواقع الترجمة الإلكترونية والاعتماد عليها في أعمال الترجمة الطبّية. وفي ظل الاستخدام الكثيف للتقنيات والحاجة إلى السرعة في عرض المعلومات ونشرها حول العالم، يمكن استخدام الترجمة الآلية في النصوص البسيطة، لكنّ الوباء، كما تقول، حشد الترجمة الطبّية بشكل رئيس، ما سلّط الضوء على أهمية خدماتها في هذا القطاع.

الصورة
مها مراد
مها مراد

الترجمة الفورية عبر المنصّات الإلكترونية هي وليدة جائحة كورونا، وهي نقطة تحوّل تاريخية. تشرح مراد هذا بالقول إن المترجمين الفوريين أصيبوا بالصدمة خلال الجائحة وتوقّفت أعمالهم تماماً بالتزامن مع الإغلاق العام، إذ تعتمد هذه المهنة على السفر في أغلب الأحيان، باستثناء الفعاليات التي تقام في مدينة المترجم نفسها.

لذلك تحدّد بضعة شروط لا محيد عنها تتضمّن معرفة المصطلحات الطبّية، وخلوّ النصوص المترجمة من الأخطاء، والرغبة في التطوّر والاطّلاع المستمرّ ومعرفة مناسبة لأصول التعامل مع الحاسوب.

وتلفت في السياق إلى أن مقدّمي برمجيات الترجمة بدأوا دمج الذاكرات المتطوّرة خصيصاً لعملاء محدّدين في أنظمة الترجمة الآلية من أجل تدريس الأنظمة الخاصّة بهم. وبناء على ذلك أصبحت ذاكرتهم الترجمية الجامدة منتجاً حيوياً مرتكزاً على الآلية يمكن تكييفه وفق لغة المصدر واللغة الهدف والنطاقات وملخّصات التكليف بأداء الترجمة.

أمّا العوامل التي تجعل الترجمة الآلية للنصوص الطبّية جيّدة، وإنْ بمساعي المترجم، فهي وفق ما تورد: اللغة الصحيحة والمصطلحات الطبية الصحيحة، وتحقيق الكفاءة الثقافية، والمعايير الأخلاقية المهنية، إذ يجب أن يكون المترجم ذا فهم شامل وواضح لها ليتمكّن من الحصول على نتائج عالية الجودة.


الترجمة والشخص الحديث
غيّرت الترجمة الآلية من طريقة تفكير الفرد في زمننا المعاصر، كما يفتتح محمود البحري، الأستاذ ومنسّق برنامج الحوسبة والوسائط المتعدّدة وتقنية المعلومات في "جامعة صحار" العُمانية.

وهو يبدأ بأن الترجمة الآلية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أزاحت تقريباً جميع حواجز اللغة، حيث مئات اللغات متوافرة على مواقع مثل "غوغل ترانسليت"، وتستغرق الترجمة من ثانية إلى عشر ثوانٍ، لكنّ هذه التقنية جعلت الفرد أو الشخص رهينةً.

والسبب، بحسبه، هو ضيق الوقت وحجم المعلومات المتزايد بشكل مستمرّ في الإنترنت، والذي يرتبط أيضاً بتطوّر التكنولوجيا في العالم واللامركزية المطلقة للمعلومات، ما يزيد الاعتماد على الترجمة الآلية بدرجة كبيرة. كما أن عدم القدرة على التحكّم بها من قِبَل الشخص المرتبط بها يؤدي إلى مشاكل مرتبطة بالثقة بنتائج أنشطة معالجة المعلومات. يعني هذا، كما يواصل، أننا وضعنا جزءاً من المسؤولية على الآلة، بسبب قلّة المعلومات.

الصورة
محمود البحري
محمود البحري

وينفي الباحث أن تكون البرامج ــ التي تحاكي أنواعٌ منها منهجيّةً معيّنةً من نشاط العقل البشري ــ قادرةً على إنشاء شيء جديد في هذا المجال، إذ إنها تكرار فحسب لما تمّ إنشاؤه من قبل. هذا، بحسبه، ما يتحقّق أمامنا الآن، وهو بلا شك مفتوح على مستقبل قد يبدو لنا خيالاً كما بدا واقعنا خيالاً للسابقين.

وعليه، يخلص الباحث إلى أن الترجمة الآلية، وعالمية أجهزة الحاسوب وقدرتها على أداء وظائف منطقية، لا تعطي أسباباً لعدم الاعتراف بهذا النشاط على أنه نشاط فكري يسمح بإنشاء ذكاء اصطناعي أذكى من مبتكره، قادر على نمذجة احتياجات الاتصال البشري وكذلك تشكيل احتياجات جديدة.

المساهمون