الانتحار بمتعة

16 أكتوبر 2022
منحوتة على شكل إنسان ينتحر، للفنان ماوريتسيو كاتيلان، ميلان، إيطاليا، 2022 (Getty)
+ الخط -

كان مريعاً أن تُثقِل امرأةٌ شابة جيوب ثوبها بالحجارة وتنزل بها إلى النهر لتموت غرقاً. أتحدّث عن انتحار فرجينيا ولف بالتأكيد، وثمّة مَن أشاد بهذا واعتبره بطولياً. كذلك كان مريعاً انتحار إرنست همنغواي، الذي وضع فوهة جفت الصيد في فمه وشدّ الزناد. ربما هو الفصل الوحيد الذي لم يعجبني في سيرة همنغواي.

أبشع حتى، كان انتحار الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث التي أدخلت رأسها في فرن الغاز وفتحت الصنبور، أو الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي أطلق النار على رأسه... أعتذر مِن هؤلاء وغيرهم، مَن لا شك لديّ كانت ثمّة ظروف مؤلمة جدّاً دفعتهم إلى ذلك.

دائماً أصادف مقالاتٍ وآراء تُشيد بالانتحار والمنتحرين. هناك كُتب أيضاً تُعيد هذا الإعجاب ذاته. فكّرتُ أنّ للموضوع شعبية ما... منها أنّ القارئ ربما أعجبه أنّ مَن انتحر كان شخصاً آخر غيره.

قلت: أردّ على هؤلاء بأن أكتب عن الانتحار بمتعة، كفعل نقيض للانتحار اليائس.

أكتب عن الانتحار بمتعة، كفعل نقيض للانتحار اليائس

أجل، ثمّة انتحار بمتعة، هذا الذي رأيتُه اليوم في الشارع... الرجل الذي في عقده الثامن كان يحاول أن يصنع لفافة تبغ بيدٍ واحدة ترتجف قليلاً، يده الثانية كانت تحمل الهاتف الذي يتحدّث فيه بمرح، أَسنَد جعبة التبغ على سور واطئ بجانب الرصيف فانتصبَت بوضوح، كلافتة في الشارع، العبارة التي كانت مكتوبة بخطّ كبير على الغلاف الداخلي لجعبة التبغ: fumer tue (التدخين يقتل)...

قلتُ: هذا أيضاً أُضيفه إلى ما اعتبرتهُ انتحاراً ممتعاً... وثمّة الانتحار بالكحول، الذي لم أحبّه يوماً. فرقٌ هائل بين متعة الكأس والثمل الخفيف، المرح المبدع، وبين الإدمان الكحولي الذي هو بائس دائماً.

هناك الانتحار المشهدي - الغنائي الذي لم يغادر ذاكرتي يوماً: ثلاثة رجال ينزلون إلى بحر صار سامّاً - يعرفون ذلك - على كوكب بعيد جدّاً عن مجموعتنا الشمسية، وما من طريقة أمامهم لمغادرة هذا الكوكب الذي ينهار، والذي ستبتلعه شمسه خلال ساعات، وما من طريقة ليعودوا إلى الأرض.

الرجال الثلاثة كانوا يتقدّمون في مياه الشاطئ الضحلة سويةً في نسقٍ، أمامهم الشمس، والبحر هادئاً يغمرهم تدريجياً بينما يُنشدون صُحبة قيثارة أغنية حب عذبة لا أثر فيها لليأس... الأغنية لم تتوقّف إلى أن ابتعدوا واختفوا تماماً تحت السطح.. حدث ذلك في فيلم خيال علمي لا أذكر منه الآن سوى هذا المشهد الأخير.

لا أعرفُ مَن أوّل مَن قال: "الموتُ حبّاً"... أنواع عديدة جدّاً من سلوك البشر قد نصِفها بهذا: انتحار ممتع... الحياة ذاتها قد تكون إحداها.


* شاعر سوري مقيم في باريس

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون