"الإثيوبية" لهيليودوروس الحمصي: رواية سوريّة ألهمت سيرفانتس وشكسبير

17 ديسمبر 2022
"ثيوجنيس يتلقّى ريشة الشرف من خاركليا"، لـ أبراهام بلومرت، 1626 (Getty)
+ الخط -

ثمّة إجماعٌ بين مؤرّخي الأدب على أن رواية "الإثيوبية" (Aithiopika)، للكاتب هيليودوروس الحمصي الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، هي الرواية التي أثّرت في جميع روّاد الأدب الأوروبي الحديث، بدءاً من تركواتو تاسو (1544 - 1595)، وميغيل دي سيرفانتس (1547 - 1616)، مروراً بِوليم شكسبير (1564 - 1616)، وصولاً إلى جان راسين ‏(1639 - 1699).

المعلومات حول هيليودوروس شحيحةٌ جدّاً، أهمّها ما كتبَه هو عن نفسه في نهاية الرواية، إذ قال إنه حمصي من فينيقيا، وكانت فينيقيا في ذلك الوقت إحدى الولايات السورية الرومانية، التي تمتدُّ من حمص شمالاً إلى بانياس الجولان وعكّا جنوباً، ومن تدمر شرقاً إلى ساحل المتوسّط غرباً. ويُصرّح هيليودوروس عن انتمائه العائلي والديني بقوله إنه من سلالةِ كهنة إله الشمس الحمصيّين، وهؤلاء يُطلق عليهم اصطلاحاً اسم عرب شمسي جرم (سامبسي غيراموس)، الذين تنتمي إليهم الإمبراطورة الرومانية جوليا دومنا، وهم الذين نقلوا عبادة إله الشمس الحمصي وحجره الأسود إلى روما.

وثمّة معلومة وردت في كتاب المؤرّخ الكنسي سقراط سكولاستيكوس (380 - 439 للميلاد) زعم فيها أن هيليودورس كان أسقفاً في مدينة ثيساليا اليونانية، وأنه وضع كتابه قبل اعتناقه المسيحية.

  
مركزية أوروبية

وجرياً على عادة أدباء وفلاسفة عصره؛ كتب هيليودوروس باليونانية، كونها اللغة العالمية في حوض المتوسط، ولذلك تُصرّ موسوعات الأدب العالمي حتى هذه اللحظة على أنه روائي يوناني، على الرغم من أنه أوضح هذه القضية بشكل واضح وصريح، كما أسلفنا، فهو معتدٌّ بأصله الحمصي السوري، ولذلك يبدو مستغرَباً هذا الإصرار على يونانية الرجل. ولعلّ ذلك الإصرار تعبير فاقع عمّا سمّاها المفكّر سمير أمين بـ"النزعة المركزية الأوروبية"، التي عبّر عنها الكاتب الموسوعي الألماني يوهان هاينريش زيدلر (1706 - 1751) تمام التعبير بقوله: "إن أوروبا ولأسباب متعدّدة هي القارّة المتقدّمة على القارات الأربع الأُخرى، فعادات سكّانها ممتازة، وهم الأكثر تهذيباً وثقافة في مختلف مجالات العلوم والفنون". 

تنسب الموسوعات هيليودوروس إلى اليونان رغم سوريّته

ويمكن القول إنّ الاستحواذ الأوروبي خلال عصر النهضة على الثقافة المدوّنة باليونانية يمثّل شكلاً من أشكال التعسّف الذي يحتاج إلى مراجعة ونقد، فالثقافة المكتوبة باليونانية هي ابنة حوض البحر الأبيض المتوسط، وروابط اليونان بالشرق الأوسط وشمالي أفريقيا أعمق بكثير من روابطها بشمالي وغربي أوروبا. علماً أن اليونانية ظلّت لغةً رسميةً في مصر وسورية حتى القرن الثامن الميلادي، وحتى في دواوين الخلفاء الأمويين أنفسهم.


قصّة حب

تتحدّث رواية "الإثيوبية" عن ولادة ملكة إثيوبيا المدعوّة بورسين، زوجة الملك هيداسبيس، ابنة بيضاء اللون نتيجة تأثير تمثالٍ رخامي أبيض عليها أثناء حملها، وهو ما يسمّيه العامة في المشرق الآن بـ"الوحام"، وخشيةً من اتّهامها بالزنا، أعطت الأمّ طفلتها لموسيقيّ من مصر يُدعى سيسي ميثرا، والذي يحملها إلى مصر ويُودعُها عند راهب يُدعى خاركليس، وهذا الراهب ينقلُها بدوره إلى معبد دلفي في اليونان، لتنشأ هناك كاهنة للإله أبولو باسم خاركليا، وعندما تكبر، وفي أحد احتفالات دلفي الدينية، تقع في حبّ نبيل يوناني يزور المعبد، يدعى ثيوجنيس. 

ولكنّ الأم الملكة، وبعد سنوات من الشوق لمعرفة مصير ابنتها، تطلب من كاهن مصري يدعى كالسيريس أن يبحث لها عن ابنتها، وفي طريق العودة إلى وطنها تخوض خاركليا وحبيبها والكاهن سلسلة من المغامرات الصعبة، حيث تعرّضت لأخطار على أيدي القراصنة الذين اختطفوهم. وأخيراً وعند اقتيادها مع حبيبها ثيوجنيس للتضحية بهما يتمّ التعرّف عليها بوصفها ابنة الملك، وتُزفُّ إلى حبيبها باحتفال ملكي كبير. علماً أنّ مقرّ الملك هو مدينة مروي، شمالي السودان الحالي. وعليه؛ فإن المقصود هنا ليس ملكة الحبشة التي نعرفها اليوم باسم إثيوبيا، بل هي مملكة النوبة. 


تقنية روائية

من حيث التقنية الروائية، يبدأ هيليودوروس قصّته من منتصف الأحداث بمفتتح مفاجِئ، يمثّل تحطّم سفينة خاركليا وحبيبها ثيوجنيس عند مصبّ أحد فرعي النيل في البحر من الجهة الغربية للدلتا. ويتتابع سردُ الأحداث خلال المرور على المدن والقرى المنتشرة على طول النيل، فنعرف عمّا حدث في معبد دلفي في منزل تاجر في إحدى القرى الواقعة على نهر النيل. ثم يتكشّف جزء محوري من أحداث الرواية في مدينة ممفيس المصرية، الواقعة جنوب مدينة القاهرة اليوم، وتجري الأحداث الختامية مع السير نحو الجنوب على طول نهر النيل، إلى أن نصل إلى العاصمة مرَوِي في السودان الحالية. 

تنتمي الرواية إلى صنفٍ عُرِف بالرومانسية القديمة

أما زمن الرواية المفترض فهو في أثناء الاحتلال الفارسي الإخميني لمصر، والذي استمرّ نحو قرنين من الزمان (من 525 إلى 332 قبل الميلاد)، إذ نقرأ عن الحكّام الفرس الذين يذرعون أرض مصر بأقدامهم، وفي ذروة الرواية، نقرأ أنهم يحاولون التوغّل جنوباً نحو مملكة مروي التي تتصدّى بقوّة للجيش الفارسي. 

تتيح الحبكة الروائية الفريدة الحكم على أن هليودوروس كاتب عبقري من الطراز الرفيع، ذو قريحة لا تنضَب، هذا إذا أضفنا تقييمات المُترجمين عن اليونانية، والذين أكّد غير واحد منهم أنه كان يمتلك يونانية رائعة، ذات أسلوب خلّاق وحيوي. ويبدو أنه كان واسع الاطّلاع على الأدب اليوناني القديم، وأيضاً على معرفة عميقة بجغرافية المتوسط، ومصر والنوبة، وهذا ما يؤكّد أنّ له صلات ما مع مصر التي ربّما عاش فيها فترة من حياته، شأنه شأن الكثير من مثقّفي سورية في ذلك العصر، حين كانت الإسكندرية عاصمة الأدب والفلسفة في العالم الهلنستي. 


رومانسية قديمة

تنتمي رواية "الإثيوبية" إلى نوع أدبي نثري نشأ في القرن الثاني قبل الميلاد، يوصف بالرومانسية القديمة، وهو يعتمد قصص الحب والمغامرات. والغريب أن الإمبراطور الروماني يوليان المرتدّ قد انتقد بشدّة هذا النوع من الكتابة في أوائل عام 360 للميلاد، وعدّها كتابات تافهة. ومع تحوّل المسيحية إلى ديانة رسمية في الإمبراطورية البيزنطية، اختفى هذا النوع من الأدب، ليحلّ محلّه نوع جديد عرف فيما بعد باسم "سير القديسين"، وهي كتابات يختلط فيها الواقع بالخيال، وتهدف إلى تمجيد بعض الشخصيات الدينية، وامتداح شجاعتها في وجه المضطهَدين من الحُكّام الوثنيّين. 

وقد حصل انقطاع طويل بين الرومانسية القديمة، وحركة التأليف الأدبي في أوروبا حتى مطلع عصر النهضة، إلى أن تُرجمت رواية "الإثيوبية"، لتفعل فعلها السحري في الحركة الأدبية الناشئة، إذ ألمح شكسبير إلى هيليودوروس في مسرحيته "الليلة الثانية عشرة"، واستند فيليب سيدني في ملحمته النثرية "أركاديا" إلى رواية "الإثيوبية"، كما أن سيرفانتس في روايته الأخيرة "أعمال بيرسيليس وسيخيسموندا" اعتمد من حيث البناء الروائي على رواية "الإثيوبية".

اكتُشفت مخطوطة رواية "الإثيوبية" في بدايات عصر النهضة الأوروبي عام 1526 في العاصمة الهنغارية بودابست، ووجدت طريقها إلى الطباعة في بال السويسرية عام 1534، ونقلها إلى الإنكليزية توماس أندرداون في عام 1569، مُعتمداً على الترجمة اللاتينية عام 1551، والتي وضعها ستانسلاف وارسشويكسكي. 

ولذلك يعدّ ظهور رواية "الإثيوبية" في منتصف القرن السادس عشر مترجمةً إلى الفرنسية والإنكليزية واللاتينية لحظة مفصلية في تاريخ الأدب الأوروبي والعالمي. فقد ألهم أسلوبُها النثري البديع، وأجواؤها السحرية القادمة من حقبة وثنية مفقودة، ومن علاقات معقّدة متداخلة، جميع كُتّاب مطلع عصر النهضة.  


* كاتب وباحث سوري فلسطيني

المساهمون