الأسلوب والعصر

24 ديسمبر 2021
من عمل لـ علي عمر أرميص/ ليبيا
+ الخط -

هل الأسلوب هو الرجل، أم هو العصر؟ يجزم الناقد الفرنسي ألبيريس أنّ كلّاً من الرجل والأسلوب هما ابنا عصرهما، وإذا اختلفت أساليب الكتاب، فإنّ بينها مجموعة من التشابهات العامّة التي يمكن أن نسمّيها سمة العصر؛ فالانتقال في أساليب الكتابة الروائية بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين إنما هو انتقال من عصر إلى آخر، انتقال من عالم مطمئنّ إلى عالم غير مستقرّ، و"النزعة الجمالية التي تعيش على فنّ القص الموزون المطمئن تتلاءم، لدى القارئ والمؤلّف، مع حساسية رجل يشعر أن شروط الحياة حوله مستقرّة موثوقة، وأنّ العالم من حولها راسخ الأسس، دقيق النظام". غير أن هذه النزعة نفسها سوف تنقلب وتتغيّر مع الانقلابات الكبرى التي حدثت في القرن العشرين، قرن الحروب والأوبئة، قرن الثورات والخضّات، قرن المستبدّين والطغاة. وحين يفقد الكون استقراره، فإننا نفقد الثقة بتلك الأساليب. تحضر الرواية الواخزة، الكثيفة، حيث تظهر المأساة مباشِرةً واللهجة قلقةً عارية من الانضباط والأناقة.

ولهذا، فهو يطلق عليها اسم الثورة الأدبية: تجديد الأساليب، تبدل التقنيات، تغيّر الحساسيات الأدبية، أمّا المثال الذي يُقدّمه على هذا التغيّر فهو مطلع رواية أندريه مالرو "الوضع البشري": هل سيحاول تشن أن يرفع الكلة؟ هل سيضرب من خلالها؟" نجد هنا أنّنا مطالبون بأن نتبنّى من الصفحة الأولى حالة البطل الذي يجد نفسه بغتة في قلب الأزمة. فـ"الرواية تضع كلّ توازن حياتنا موضع تساؤل"، بينما لم تبدأ أي رواية في القرن التاسع عشر بداية مماثلة، كان ذلك مستحيلاً. هو نموذج ما كان ممكناً في أساليب القرن الماضي، إذ كان كتّاب القرن التاسع عشر يميلون إلى تقديم المأساة بوصفها مأساة الآخر، فالتعاسة الموصوفة ليست تعاستنا، وعذاب البطل أو البطلة ليس عذابنا، ونحن في منجاة دائماً من التورُّط في المشكلة التي انزلقت إليها الشخصيات في الرواية.

خرج الأدب الروسي من معطف غوغول، لكن الرواية العربية لم تستطع أن تجد معطفاً خاصّاً بها

في هذا القرن المضطرب القلق نشأت الرواية العربية، لم يكن عصر طمأنينة بالنسبة إليها بالتأكيد، بل كان عصر بلبلة وقلق وحيرة وصراع على الماضي والحاضر والمستقبل، عصر الاستعمار الخارجي من جهة، وعصر البحث عن خيارات العيش وأشكاله في ظلّ القرن العاصف من جهة ثانية.

مضت مئة عام على ولادة الرواية العربية، ولكنها ظلّت حتى اليوم حائرة في هذه الخيارات، إذ نجد أسلوب القرن التاسع عشر يتجاور إلى جانب أساليب القرن العشرين، دون أن تكون لدينا انشغالات بمدى التطابق بين الأسلوب الروائي وبين العالم الذي يمثّله أو يحاول إعادة تركيبه وخلقه. هل هذا منصف حقّاً؟ هل يستطيع أسلوب قديم يعبّر عن عالم مستقر، التلاؤم مع عالم مفكَّك مضطرب موجع؟ هل تبدُّل الحساسية الأدبية قرار اتّخذه الأدباء في القرن العشرين ردّاً على المتغيّرات الحادّة بل العاصفة في العالم، أم أنه استجابة طبيعية تدعو لها الحاجة للتعبير؟

كان تورغينيف يقول: كلّنا خرجنا في أدبنا من معطف غوغول، كان يقصد الرواية الروسية، لكن الرواية العربية لم تستطع أن تجد معطفاً خاصّاً بها كي ترتديه.


* روائي من سورية

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون