تندّر الأردنيون على شاب عشريني اسمه قتيبة سأل رئيس الوزراء السابق على حسابه في تويتر إن كانت الأوضاع ستتحسن أم عليه البحث عن بلد يهاجر إليه، حيث تصدّر هاشتاغ منذ نحو عامٍ جميع منصات التواصل الاجتماعي يدعو الشاب إلى الهجرة. ليس في الأمر طرفة تُذكر، باستثناء أن هذا السؤال خرج للعلن ولم يكترث أحد لجواب الحكومة، فالردّ الشعبي أكثر صدقاً وإقناعاً.
يذهب المحللون والمعلّقون في وسائل الإعلام عادةً إلى معاينة الأزمات بوجهها السياسي وأرقامها وبياناتها المتعلّقة ببعدها الاقتصادي، وربما مرّوا لماماً على تداعياتها الاجتماعية، ولا يُلتفت بطبيعة الحال إلى الثقافة باعتبارها فضاء لتقديم الاجتهادات الفكرية والنصوص الإبداعية لمواجهة مآزق مجتمعاتنا؛ فضاء تمّ تهميشه أردنياً وعربياً لعقود طويلة، وخير إثبات على ذلك قتيبة نفسه الذي لم يتلق في مدرسته أدوات التفكير النقدي، ولم يتواجه مع المسرح والموسيقى والفن التشكيلي، وبالطبع توقّفت مناهج اللغة العربية عند نصوص تنتمي إلى أربعينيات القرن الماضي.
انحسرت ثقافة أجيال وراء أجيال ضمن حدود وقيود لا تعدّ ولا تحصى، حيث تغيب الفلسفة والمنطق والمعارف التي تقدّمها العلوم الاجتماعية والإنسانية وفق مناهجها الحديثة عن جميع مراحل الدراسة، كما تغيب الفنون، ما يعني انحدار ذائقة ملايين المواطنين وافتقادهم الإبداع خارج المنظومة الرسمية التي تشجّع أشكالاً رديئة من الأغنية والشعر والكتابة.
ينصبّ تفكير المثقف على "الاعتراف" به عبر جوائز وتكريمات
هل يمكن مراجعة أحوال الثقافة خلال عام 2020 بمعزل عن هذه الاشتراطات التي أنتجت مشهداً لا وجود فيه لحراك حقيقي يمكن أن يقوده أفراد وقوى اجتماعية ومؤسسات أهلية تشكّل جزراً معزولة عن مكانها الذي يفترض أنها تعيش فيه، وعن سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، وينصبّ تفكير هؤلاء الأطراف على إيجاد "اعتراف" بهم عبر الجوائز والتكريمات والأعطيات.
في غضون الأشهر الماضية، تبارى الكتّاب على نشر نصوصهم ويومياتهم في زمن كورونا على وسائط التواصل الاجتماعي، وفي ما تبقّى من صحافة ثقافية، كما صدرت عدّة كتب عن دور نشر جمعت تلك الكتابات في مؤلَّف، وتحضر المفارقة أن معظم ما كُتب لا يشير إلى أن الجائحة حدثت الآن/ هنا؛ في هذه الجغرافيا وفي سنة 2020، وتعبّر عن أيّة جغرافيا في أي فترة زمنية، ويبدو أن أصحابها يحيون في مخبر ناءٍ وقصيّ ومعقمٍ لا صلة له بالواقع المعيش، ناهيك عن ضعف في المتخيّلة ومستواها الفني.
كشف الوباء مشكلات جذرية تعاني منها قطاعات عديدة، تشترك فيها مع معظم البلدان العربية، وفي مقدّمتها عدم قدرة الغاليريهات على تطوير آلية العرض افتراضياً واستخدام تقنية "360 درجة" التي تتيح تصوير مقتنياتها بطريقة تتيح تقديم مشهد بانورامي يشبه إلى حدّ كبير معاينتها في الواقع، كما لم تشهد السنة المنصرمة معرضاً لأحد للفنانين العرب والأردنيين المكرّسين، وهيمنت المعارض الجماعية التي تنظّم أغلبها دون ثيمة محدّدة أو ناظم يجمع الأعمال المشاركة فيها.
وغاب أيضاً الأرشيف الأردني في لحظة أُغلقت خلالها المراكز والمؤسسات الثقافية، خلال فترة الحظر الشامل، وتنافست جميعها على العرض رقمياً في منصّاتها الإلكترونية، وكان ملاحظاً عدم عرض مئات الأعمال المسرحية التي يفترض أنه تمّ توثيقها في مهرجانات المسرح الثلاثة؛ للكبار والشباب والطفل، خلال ربع قرن مضى، ما يثير تساؤلات حول الذاكرة الثقافية طالما أن المحو أو الإهمال يطاول أحدث النتاجات كذلك.
معظم ما كُتب لا يشير إلى أن الجائحة تحدث الآن في هذا البلد
ربما لم يستفزّ فيروس كوفيد - 19 أهل الثقافة بما يكفي لإعادة النظر بدورهم في تحديث المجتمع في مرحلة تشهد تراجعاً لهيبة الدولة وتصاعد الهويات الفرعية والمناطقية، وكان لافتاً أن خساراتهم وتراجع الاهتمام بما يقدّمون لا يهمّ سواهم في ظلّ حكومة غير منتخبة ولا تخضع للمحاسبة، وأضيف إلى ذلك كلّه قانون الدفاع الذي أُقّر مع بداية الجائحة، بما زاد من احتكار السلطة، حيث أصبح اتخاذ القرار محصوراً ضمن دائرة محدّدة، وليس متاحاً مناقشة استمراريته ومعرفة متى سينتهي العمل به.
وفق هذه المعادلة، لا ينفصل الإصلاح الثقافي عن السياسي، إذ كيف يمكن مناقشة أزمة النشر - على سبيل المثال - في ظلّ غياب استراتيجيات لتوطين القراءة بوصفها جزءاً فاعلاً في أية عملية تنمية تربط تطوّر قطاعات الصناعة والزراعة والصحة والبيئة وغيرها بتحديث المعرفة، وليس باستيرادها ومحاكاة تطبيقاتها فقط.
وليس بعيداً عن حديث الإصلاح، ينبغي الإشارة إلى انتخابات مجلس النواب التاسع عشر في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حيث لم يخرج أي من المرشحين على اختلاف خلفياتهم السياسية عن التجاهل "المزمن" للثقافة التي تختفي تماماً في بيانات ترشيحهم، فلا نعثر فيها على مشروع قانون واحد ينظّم العمل الثقافي وحقوق المشتغلين فيه، والتي تتقّدم بها الحكومات دائماً حيث يبدو لافتاً حراك ومبادرات وزير الثقافة الحالي، باسم الطويسي، الذي يعكس وجهة نظر يصعب تطبيقها لسببين وجيهين؛ الأول يتعلق باحتمال التراجع عنها مع قدوم وزير جديد في بلد يبلغ عمر حكوماته حوالي العامين، والثاني يتعلق بقلّة كفاءة الجهاز البيروقراطي ووزارة الثقافة ليست استثناء.
لم تتمكّن الغاليريهات من تطوير تقنيات العرض الافتراضية
من أبرز هذه المبادرات كانت عودة صندوق دعم الثقافة الذي يؤمل أن يؤسس لحركة وتنمية ثقافية مستدامة من خلال توفير تمويل للمشاريع من قبل القطاع الخاص، عبر تخصيص مبالغ تندرج في إطار المسؤولية الاجتماعية للشركات، ما سيحقق نقلة نوعية في المجال الثقافة في ظل شحّ ميزانيتها التي لا تذهب معظمها لتغطية رواتب موظفيها ومبانيها المستأجرة، لكن ذلك مشروط بالنزاهة والحوكمة الرشيدة في إدارة الصندوق ومنح الدعم لمستحقيه.
انتهى عام 2020 الذي ألغيت فيه معظم التظاهرات، وأقيم القليل منها افتراضياً، وتراجع عدد الإصدارات بشكل كبير جداً، وأُجبر المثقفون والمبدعون على دخول عزلة اضطرارية، ولم يؤثر ذلك على مجرى الحياة في الأردن التي تخلّصت دون سابق قصد من المجاملات التي تتخلّلها حفلات التوقيع لإصدارات الكتّاب الجديدة والتكريمات التي تنظّم على مدار السنة، لعلّ هذا الهدوء العميم يبعث على إعادة التفكير في مشهد صاخب ولا يقول شيئاً في آن!
رحيل يترك أثراً
غاب الروائي الأردني إلياس فركوح (1948 - 2020) في تموز/يوليو الماضي، بعد رحلة طويلة وغنية لأحد الكتّاب الذين ساهموا في تطوير الكتابة السردية في الأردن التي لم يعد فيها الحدث مادة أساسية بل نقطة لتأمّل في حيوات من عاشوه، وفي توثيق التاريخ المعاصر لمدينته عمّان التي احتلّت شخصياتها الهامشية مكانتها الحقيقية في رواياته، إلى جانب حضوره المؤثر في المشهد قارئاً وناشراً ومترجماً وكاتب مقال اشتبك مع الظواهر الثقافية والاجتماعية لأكثر من أربعة عقود.