تُلقي زاوية "الأدب الكبير" الضوءَ على كُتب وأسماء أساسية من التراث العربي والإسلامي انشغلت بالإنسانيّ والكونيّ، ما يجعلها راهنة في أيّامنا هذه رغم مضيّ قرون على ظهورها. هنا عودة إلى كتاب "الصداقة والصديق" للتوحيدي، وإلى قوله بقرابة الصداقة والحبّ.
من بين الأسئلة التي يطرحها أبو حيان التوحيدي (القرن الرابع الهجري) في كتابه "الصداقة والصديق"، سؤال متفرِّد ما زال يُغني المحادثات والمُنافثات، ويفرض نفسه حتى داخل العلاقات الزوجية أو الحميميّة.
في حواره مع الفيلسوف الفارسي الأصل، البغدادي النشأة، أبي سليمان المنطقي، أو محمد بن ظاهر بن بهرام السجستاني، يسائله التوحيدي عن الفرق بين الصداقة والعلاقة، فيجيبه المنطقي الشهير بالتالي: "الصداقة أذهَبُ في مسالِك العقل، وأدْخَلُ في باب المُروءَة، وأبعدُ مِن نوازي الشّهوة، وأنزه من آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الكهولة، وأرمى إلى حدود الرّشاد، وآخَذُ بأسباب السّداد، وأبعد عن عوارض الغرارة والحداثة. فأمّا العلاقة فهي من قِبَل العِشق والمحبّة والكلف، والشّغف والتتيّم والتهيّم والهوى والصّبابة، والتّدانف والتّشاجي. وهذه كلّها أمراضٌ أو كالأمراض، بشرَكة النفس الضّعيفة والطّبيعة القويّة، وليس للعقل فيها ظِلٌّ ولا شَخْصٌ، ولهذا تُسرِع هذه الأعراض إلى الشّباب من الذُّكران والإِناث وتنال منهم وتملكهم، وتحُول بينهم وبين أنوار العقول، وأداء النفوس وفضائل الأخلاق وفوائد التّجربة، ولهذا وأشباهِه يحتاجون إلى الزَّواجِر والمواعظ، ليفيؤوا إلى ما فقدوه من اعتدال المِزاج والطّريق الوسط".
مسألة العقل هي إذاً في صميم الطّرح بين الصداقة والعلاقة، على أنّ أبا سليمان قد وضع في أوّل الكتاب وفي ردّه على سؤال التوحيدي (من هو الصّديق؟) أنّ "صديقي وصديقكم هو العقل". كما أنّ "غياب العقل" يقع في صميم الحبّ ومن موجِباته، كما يقول ابن عربي (توفيّ عام 638 من الهجرة) في "الفتوحات المكيّة": "لا خير في حُبٍّ يُدبَّر بعقل"، أو كما يظهر في حالات الحبّ الموصوفة دائماً بألفاظ تنمُّ عن الجنون وذهاب العقل، وفُقدان الإرادة، وشمولية سيطرة العشق على كلّ أطراف الذهن والجسد. وهذه الألفاظ عِدّتها ستون، أدرجَ منها ابن الجوزي (توفيّ سنة 597 للهجرة) في كتابه "ذمّ الهوى" خمسين، والعشر الباقيّات موجودة في كتب أخرى، كـ"المصون في سرّ الهوى المكنون" للحُصري القيرواني (488 للهجرة).
في كتاب التوحيدي تجانسٌ بارز بين أوصاف الصداقة والعلاقة
ويبدو أيضاً من جواب أبي سليمان المنطقي، أنّ الشّهوانية التي تسِم العلاقة، ولو في مفهومها العُذري- لأنّه يكفي أن تسيطر شهوة اللّذة بالمحبوب على الذِّهن من دون أن يخضع الجسد، لتغييب العقل، والابتعاد عن الاعتدال والتوازن، أو ما أسماه السِّجستاني بـ "الوسط"- هي خطٌّ أحمر بين الصّداقة والعلاقة. ولهذا ربّما ما زلنا إلى يومنا هذا نتساءل عن إمكانية الصّداقة بين رجل وامرأة، أو استحالتها. وهذا موضوعٌ آخر.
وعلى مستوى آخر، يكْمُن الفرق في انعدام الصّديق أو نُقصانه الحتمي، مع تواجد العشيق ووفرة العلاقات، بدليل التّراكم الهائل لقصص العشّاق والمُحِبّين، والمؤلّفات في الموضوع، وبمقتضى الطبيعة البشرية وميولها ببساطة. "قيل لأعرابي: ألكَ صديقٌ؟ قال: أمّا صديق فلا، ولكنْ نِصفُ صديق. قيل: فكيف انتفاعك به؟ قال: انتفاع العُريان بالثوب البالي". و"قيل لفيلسوف: مَن أطول النّاس سفراً؟ قال: مَن سافرَ في طلب صديق". "وقد سئل رَوْح بن زِنباع الجذامي (84 هجرية) عن الصّديق فأجاب: "لفظٌ بلا معنى، أي أنّه لعزّته كأنّه ليس بموجود".
وإذا اقتربنا من اللّفظ بعينه، فالصّديق "أُخذ من الصِّدق الذي هو خلاف الكذب، ومن الصَّلابة لأنّه يقال: رُمح صِدْق، أي صُلب. وهذه صفات من الأخلاق العالية". أما العلاقة، فهي أساساً من "العلَق" ممّا يعلق بقلبك وذاتك، أو من "العَلَقَة" في الرّحِم، وهذا من قِبل الطبيعة، وليس الأخلاق.
ورغم هذه الفروق، عندما تقرأ كتاب "الصّداقة والصّديق" أو فصولاً عن الصّداقة في كتب أخرى، كـ"كتاب الموشّى" للوشّاء (القرن الثالث الهجري)، تجد تجانساً بارزاً بين أوصاف الصّداقة وأوصاف العلاقة، وتشابها في شروط الصّديق، وأوصاف المحبّ، لأنّ كلا المفهومين يغوص في بحر واحد، ويرشف من العين نفسها، كما يقول روح بن زنباع في نفس كتاب التوحيدي: "ولو جُهِل معنى الصّديق، لجُهِل معنى الصّاحب، ولو جهل معنى الصاحب، لجهل معنى الخليل، وعلى هذا الحبيب، والرّفيق، والوديد... وهذا كلُّه على باجٍ واحد، وإنّما تختلف بالمرتبة في الأخَصّ والأعَمّ، والألطف والأكثف، بالأقرب والأبعد والأخلص والأريب".
يقول السجستاني مجيباً التوحيدي: صديقي وصديقكم هو العقل
أو كما في شرحٍ ممتع لأبي سليمان المنطقي لمقولة أرسطوطاليس: "الصديق إنسانٌ هو أنتَ إلّا أنّه بالشخص غيرُك": "إنّما أشار بكلمته هذه إلى آخر درجات الموافقة التي يتصادق المتصادقان بها... وأوّل هذه الموافقة توحُّدٌ، وآخِرها وِحدة، وكما أنّ الإنسان واحدٌ بما هو إنسان، كذلك يصير بصديقه واحدٌ بما هو صديق، لأنّ العادتين تصيران عادةً واحدة، والإرادتين تتحوّلان إرادةً واحدة". ويختم المنطقي تعليقه بالبيت الشهير الذي تجده في سرير المُحبّ، وخلوة الزّاهد وتُصادفه تاجاً على جبين الصديق: "روحُهُ روحي، وروحي روحُهُ / إن يشأْ شئتُ، وإن شئتُ يشا".
* شاعرة وروائية مغربية مقيمة في باريس