"الآنسة جميلة"، رواية اللبنانية نسرين النقوزي، الصادرة حديثاً عن "دار النهضة العربية" في بيروت، تُوحي من بدايتها بأنها أقرب إلى الحكاية. في السرد الصريح والمباشر الغنيّ بالتعليق، والكاريكاتير، واللغة المادّية الخالية تقريباً من الصور والأدب والفصاحة، ما يُشعر بأن النص لا يبتعد عن الحكاية. لكنّ القراءة لا تقف عند ذلك ولا تبقى عنده، فالاستطراد فيها فصلاً بعد فصل، وتوالي هذه الفصول التي يأتي كلّ واحد منها بلسان إحدى الشخصيات، لا يبقيان على الانطباع الأول.
ما شعرنا من قبل بأنه حكاية فحسب، يتّخذ أكثر فأكثر شكل الرواية، بل هو يذهب بعيداً في ذلك. ما بدا لنا في مستهلّ القراءة أخباراً وحوادثَ وأوصافاً مباشرة وتعليقات، يُعاد قولُه تقريباً من جهة أخرى، وعلى ألسنة آخرين. في الإعادة هذه بناء دراميّ، وعود على بدء، ورؤية ثانية، وانقلاب على الرواية الأولى، وقراءة جديدة لها من وجهة نظر معاكسة.
إذا تتبّعنا الرواية، سنجد أن ما حسبناه، في البدء، أخباراً وطرائف، لا يلبث، ونحن نتقدّم في القراءة، أن يغدو فصلاً بعد فصل عمقاً آخر، والتفافاً على القراءة الأولى، وسرداً يتمّ، حلقة بعد حلقة، في نوع من رواية دائرية. تطرح نظراً ثانياً ومُعاكساً، بحيث نقرأ الرواية نفسها برؤى مختلفة ومتفاوتة، بل ومتباينة. ما بدأ حكاية ينبني روائياً، بل يتشابك ويتداخل ويستعاد في حلقات، هي واحدة بعد الأخرى تتغوّر في السرد وفي الرؤى.
رواية تُشعرنا من البدء وكأنها نوع من القَصَص الشعبي
الرواية هي رواية الابنة جميلة، والأب، أبو أحمد، والزوجة الثانية، سهير. وسيكون لكلّ من هؤلاء روايته الخاصة، على لسانه ومن وجهته. نسرين النقوزي، التي بنت روايتها من هؤلاء، توضّح جيداً ما بينهم من اختلاف ومن تضارب يحمل أحياناً قدراً من التباين الكاريكاتوري، تنجح الرواية في إظهار ما فيه من باعث على السخرية.
هذا الاختلاف هو الذي تتأسّس عليه الرواية، بل هو مادّتها الأساسية وبنيانها، وحركتها الداخلية إذا جاز القول. يمكننا هكذا أن نسمع جميلة، التي ليس لها من الجمال إلّا هذا الاسم، تصرّح بأن ليس لها جمال أمّها المتوفاة، بل هي أشبه بأبيها القبيح، إذ الشبه بالأب يجعلها أقرب إلى الذكَر. إنها المسترجلة، كما يَذكر عنوان الفصل الأول.
هناك أيضاً سهير، الزوجة الثانية للأب، المكروهة من الابنة. سهير هذه تزوّجت زواج مصلحة برجل يكبرها بكثير، ولا تُطيق قربه. هناك أيضاً الأب الذي يتزوج، بعد وفاة امرأته التي بقي يحنّ إليها. هذه الشخصيات تتبادل مشاعر ومواقف من بعضها، وكل منها يصرّح، في فصله، بها، بحيث تبدو الرواية دوراناً حولها. ما تنبني عليه الرواية هو هذه الرؤى والمواقف التي تستطرد الشخصيات فيها.
رؤى ومواقف هي عِماد الرواية، لكنها رغم ذلك تنهار، مع الوقت وبالوقت. سنرى، بنوعٍ من انقلابٍ تام، الرواية تتهدّم وتُفسح لمستقبل معاكس تماماً. سنرى عند ذلك الأب وقد تغلّبت عليه شيخوخته، فتبدّلت ظروفه، وتبدّلت معها حياته. هو الآن يلزم بيته، بعد أن كان يُمضي وقته في الخارج. هو الآن لم يعد يهتمّ بثيابه، بل يقضي وقته في مباذله.
جميلة، بدورها، لم تعد لها ضغائنها تجاه زوجة أبيها. هما الآن في البيت نفسه، تتعايشان وتتلازمان. هكذا تنتهي الرواية التي لم تكن، في أوّل الأمر، سوى التعاكسات والاختلافات بين شخصياتها. كانت، على هذا النحو، قريبةً من أن تكون عرضاً مسرحياً لتباينات عائلية، عرضاً لا يخلو من سخرية، بل هو أحياناً يقوم بها وعليها.
نحن هكذا، ولو من بعيد، أمام ما يمكن اعتباره دراما الحركة، أو كوميديا الحركة التي تبدو، في نهاياتها، ذات منحى هزليّ. فالإحباط والهبوط والسكينة حلّت بالأشخاص، وكأنما توقّفت حياتهم، وتوقّفت معها كوميدياهم. هكذا يبدو رُكون الشخصيات إلى الهدوء، وغرقُها في رتابة الحياة الثانية ذا استمراريةٍ كوميدية.
تفاصيل هي تقريباً حياتنا العائلية، وقد غشيها التهكّم
الرواية التي هي ذات حاسّةٍ واقعية، بما يعني ذلك من عرض فظاعة الواقع وتنافره، تنتهي بقدر أكبر من هذه الفظاعة الواقعية. الواقع، الذي ظهر في البداية مليئاً بالتضادّات والمفارقات، لا يلبث أن يخلو منها، ليغدو في نهاياته أكثر وحشة، بل يبدو، على نحو ما، بائساً. لكنّ المرحلة الثانية، في مقابلتها بالمرحلة الأولى، تبدو هي الأخرى، في ركودها وإحباطها، استمراراً كوميدياً.
رواية النقوزي تُشعر، من البدء، بأنها نوع من قَصَص شعبيّ. بل إنها، رغم فُصحاها، توحي وكأنها عامّية. التفاصيل المبالغ بها أحياناً، مستمدّة أيضاً من هذه الناحية. الرواية هكذا قائمةٌ في بيروتنا، وتفاصيلها هي تقريباً حياتنا العائلية، وقد غشيها التهكّم. لكن التهكّم نفسَه شعبيّ، وهو، بالدرجة نفسها، جزءٌ من بيوتنا وعائلاتنا. هل يمكن أن نقول لذلك؛ إن لرواية النقوزي ما يمكن اعتباره نفَسها الخاص أو أسلوبها؛ إنها رواية ما بقدر ما هي اسكتش مسرحي.
* شاعر وروائي من لبنان
بطاقة
نسرين النقوزي كاتبة ومُدوِّنة لبنانية من مواليد صيدا عام 1987، وتُقيم منذ سنوات في كندا. درست الصحافة والإعلام في "الجامعة اللبنانية" ببيروت، وتعمل في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها. قبل "الآنسة جميلة" (دار "النهضة العربية"، بيروت، 2023)، كانت قد صدرت لها، عام 2021، روايةٌ بعنوان "المنكوح"، عن دار "ابن رشد" في القاهرة، والتي أُعيدَ إصدارها في طبعة ثانية، عام 2022، لدى منشورات "أكورا" في طنجة بالمغرب.