استعمار الرواية

02 فبراير 2024
فلسطينيون يرفعون أنقاض "مدرسة العروبة" في مخيّم النصيرات أوّل أمس (Getty)
+ الخط -

لم يكن الراوي في الحكاية الشعبية العربية يحفل بالجغرافية، وقد كانت بلاد الشام، مثلاً، أرضاً متاحة للمتخيَّل الحكائي، حيث تتحرّك الشخصيات وتتنقّل في هذه المساحة من دون أيّ قيد من قيود السفر التي وُضعت في بدايات القرن العشرين، وهو ملمح من الملامح الهامّة التي تفرق بين الراوي في الرواية، والراوي في الحكاية.

وعندما وَضع مارك سايكس وجورج بيكو الخطوط النهائية لخرائط بلاد الشام والعراق، في المعاهدة السرّية التي باتت شهيرة اليوم، تخصّ جميع سكّان هذه المنطقة من دون استثناء، كانا يرسمان حدوداً سياسية، أصبحت فيما بعد ذلك أوطاناً، ولم يخطُر ببالهما قطّ، كما أتخيّل، أنهما يحدّدان هوية، أو هويات.

وبينما كان التاريخ، ولا يزال، يطلق على الحكاية اسم الحكاية الشعبية العربية، فقد أرغمته الحدود التي رسمها المستعمر على تغيير التسميات فيما يخصّ الرواية، بحيث صار لدينا اليوم تسميات تخلو من كلمة "العربية"؛ مثل الرواية السورية، والأردنية، والفلسطينية، والعراقية؛ وهي تسميات تعكس الحدود، وتحاول تأييد "الهويات" الجديدة الطارئة التي صنعها المستعمر بجرّة قلم المتعاهدين.

تسمياتٌ تعكس الحدود وتؤيّد هويات طارئة صنعها المستعمِر

وإذا كان الراوي في الحكاية قد استطاع أن يتجاوز مسألة الانتماء الجغرافي، فإنّ الأمر الأكثر أهمية هو أنّه كان بوسعه أن يتجاوز مسألة الانتماء الهوياتي، فالانتقال بين الأماكن كان متاحاً وحرّاً، لا بفضل بنية الحكاية وحسب، بل بمساعدة المكان الخارجي الذي لم يكن يضع العراقيل أمام حركة البشر الأحياء بين أرض فلسطين وأرض الشام مثلاً، أو الشخصيات المشاركة في صناعة الأحداث، وبالتالي فإنه يترك المخيّلة حرّة، لا تنشغل بهذه المسألة بتاتاً، أو هي لن تكون ضمن معوّقات السرد.

غير أنّ الجغرافية الاستعمارية بدت كأنما قد استَعمرت الرواية أيضاً، ووضعتها في المشكلة، فالحدود السياسية التي نشأت بعد تثبيت المعاهدة، لا تسمح بمرور جواز السفر، وحده، أو عدم مروره، بل إنّها أضحت عائقاً أمام الشخصيات في الواقع أوّلاً، ثم في قضية الانتقال بين الحدود. ويعرف الناس الذين قَسّمت المعاهدة، أراضيهم، وعشائرهم، ومدنهم، وقراهم، بين العراق وسورية، وبين سورية والأردن، وبين لبنان وسورية، كيف صار القريب عاجزاً عن زيارة قريبه، وكيف افترق الأصدقاء، وتشتّت الناس بين بلدين، وفي زمن قصير للغاية هو زمن إعلان الدول، حيث اكتسب الأشخاص المعنيون هويات العراقي، أو السوري، أو اللبناني، أو الأردني.

لا تستطيع الرواية تجاوز الواقع السياسي الراهن، أي تقسيم المنطقة إلى دول أخذت تتمسّك بحدودها، إلّا إذا اقتربت من نظام السرد في الحكاية الشعبية، وذلك بتجاهل الوقائع على الأرض، ويمكن للعجائبية أن تكسر هذه القاعدة الجديدة أيضاً، من دون أن تستطيع المسّ بالحقائق التي بُنيت على الأرض.

وفي المقابل، فإنّ النقد لم يتمكّن حتى اليوم من التعرّف إلى الملامح التي تجعل من التسمية التالية: "الرواية السورية" مطابِقةً للمكتوب، أي أنّ السوري في الرواية السورية لا يَظهر كمجموعة من الظواهر الفنّية أو الأسلوبية التي يمكنها أن تؤكّد الهوية الإقليمية، وهذا الأمر ينطبق على الرواية العراقية، والأردنية، واللبنانية، وسوف تبقى التسمية مقتصرة على الحيّز السياسي، أو الجغرافي، الذي تحدث فيه وقائع الرواية المعنيّة.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون