ابن بطوطة التركي.. أوليا جلبي يصف أنطاكية في القرن السابع عشر

05 فبراير 2022
رسم لأنطاكية في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

من طرائف الرحالة العثماني الشهير أوليا جلبي، صاحب الرحلة الكبرى "سياحة نامة"، أنه زار المشرق العربي أكثر مرة، وفي كل مرة كان يسلك طريقاً مختلفاً، وتكون عادة برفقة واحد من رجالات الدولة العثمانية الكبار، ولذلك تكتسب رحلاته أهمية خاصة، كونها حدثت في مرحلة شهدت تراجعاً كبيراً في حركة التأليف باللغة العربية، باستثناء بعض المؤلفات الفقهية والصوفية.

في رحلته الأولى التي حدثت في عام 1648، توجه رحالتنا إلى الحج في الديار المقدسة بالحجاز، بصحبة مرتضى باشا المعين حديثاً والياً على الشام، وقد مر في طريقه على مناطق لا يطرقها رحالة تلك الأزمنة بسبب الخشية من اللصوص وقطاع الطرق الذين كانوا يخوفون البلاد والعباد، ولولا الحماية التي حظي بها من رجال الباشا، لما تمكن من زيارة هذه النواحي التي سنأتي على ذكرها في استعراضنا بعض محطاتها.

ويعد محمد ظلي أفندي الشهير بأوليا جلبي في نظر بعض المستشرقين معادلاً في قيمته العلمية لابن بطوطة، وهو مولود في إسطنبول عام 1611 ميلادية من أبوين أبخازيين من القفقاس، وكان جده حاملاً لواء السلطان محمد الثاني فاتح القسطنطينية، أما والده درويش أفندي فكان جواهري البلاط السلطاني في عهد السلطان سليمان القانوني وكانت أمه أُختاً للصدر الأعظم.

رافق رحالتنا أهم الجيوش العثمانية إلى الشرق والغرب، واستطاع أن يرى أكثر بلاد الأناضول والرومللي والقفقاس، ووصل إلى جزيرة كريت، وجال في إيران وفيينا وألمانيا وهولندا وبولندا وروسيا، ورجع إلى إسطنبول عن طريق جزيرة القرم. ولا يقتصر مؤلفه على وصف الأمكنة فقد زودنا بمعطيات مهمة عن عادات الشعوب التي مر بها، وأحوالها الفكرية والاجتماعية ونظم حكوماتها ومعاهدها ومنشآتها وآثارها القديمة التي أولاها قدراً كبيراً من اهتمامه.


من أسكدار إلى أضنة

بدأ أوليا جلبي رحلته التي سنتناولها في مقالنا هذا بقصد الحج، فانطلق مع ركب مرتضى باشا من حي أسكدار، على الجانب الآسيوي من إسطنبول، في الشهر التاسع من عام 1648، فعبر الأناضول، من مدينة أزنيق إلى أسكي شهر، ثم إلى أق شهر وقونية، منها إلى أوركلي وأولوقشلة، إلى أن وصل إلى مدينة أضنة التي لفت نظره في سهولها قطعان الجواميس الضخمة، وأشار إلى أن جزءاً من هذا الجاموس تعود ملكيته للدولة كونه مخصصاً لجر المدافع الثقيلة. ويقول إنه عبر جسرها ذا الست عشرة قنطرة المبني على نهر سيحان، ثم يذكر أنه وصل إلى قلعة مسيس ومن هناك عبر في منطقة شديدة الخطورة بسبب تسلط أكراد الجومة التابعة لحلب عليها.


بلدة بيَّاس

وبعد أن يعدد محطات الطريق إلى بيَّاس، الواقعة شمالي لواء اسكندرونة، في محافظة هاتاي التركية حالياً، يقول إن مسجدها بناه الصدر الأعظم محمد باشا الصقلي، وقد امتدح أهلها لأنهم كانوا يواجهون قراصنة البحر، ويحمون المضائق من عاديتهم. وكذلك يشير إلى أنهم، أي سكان بيَّاس، كانوا يتصدون للصوص الجبال، ويسهلون سبيل الحاج والتجار المارين ببلدتهم من بلاد الترك إلى بلاد الشام وبالعكس. ولكنه يشير إلى سوء مناخ المدينة، فحرارتها مرتفعة صيفاً، وهواؤها رديء، ولذلك يضطر أهلها إلى الاصطياف في الهضاب المحيطة بها.

ويشير "سياح عالم"، كما يسميه الأتراك، إلى أن الرعاة الأكراد والتركمان كانوا يتسلقون مرتفعات بيَّاس في فصل الصيف، ويطلقون مواشيهم لترعى الأعشاب الغضة والمياه العذبة. وبعد أن مكثوا في بياس يومين غادروها باتجاه الجنوب واجتازوا جسراً متقن الصنع، ذا أربع منافذ من آثار محمد باشا الصقلي. ويقول رحالتنا: "وجدنا قرب الجسر على الشاطئ تكية باسم الشيخ عبد القادر الكيلاني، عامرة الأركان، آهلة بالدراويش، ثم استأنفنا المسير نحو القبلة، فمررنا بتكية ثانية أصغر من الأولى فيها بضعة دراويش ينتسبون إلى الطريقة البكداشية، ثم اجتزنا جسراً نصب على نهر، تجتمع مياهه في الأودية المنحدرة من أعالي الجبال التي ذكرناها، وتصب في البحر، وعلى مقربة من هذا الجسر مررنا بقلعة تدعى قلعة المركز، تبعد عن البحر رمية سهم، بنيت على سفح جبل عال، وهي مربعة الشكل ذات بناء جميل، قيل إنها من عهد القياصرة".

ويقول أوليا جلبي إن السلطان سليم الأول، مر من هذا المكان وهو ذاهب للاستيلاء على مصر، فافتتحها بالأمان، وهي الآن تابعة لنيابة بياس التي تتبع بدورها لولاية حلب، ويشير إلى وجود "قائد عسكري عثماني فيها وعدة جنود، وحولها كروم وبساتين، وفي داخلها جامع وبضعة بيوت لسكنى الجنود".


بلدة إسكندرونة

بعد هذه القلعة يقول أوليا جلبي إنهم مروا على ساحل يدعى "قابض الذقون" يسيطر عليه اللصوص وقطاع الطرق، وجلهم من أكراد الجومة (عفرين حالياً) قرب حلب، ولذلك يدعو المجتازين لأن يأخذوا حذرهم. وبعد أن يمر بمكان يدعى النهر المر، يصل ورفاقه إلى قلعة إسكندرونة.

وفي وصفه لهذه البلدة يقول: "سميت هذه البلدة باسم بانيها الإسكندر الكبير، وبعد أن خربتها عوادي الزمان عمرت في أول الإسلام، ثم خربت مرة أخرى، وصارت ملجأ لقطاع الطرق، وقرصان الإفرنج، فاسترعى هذا الحال نظر نصوح باشا الذي كان صدراً أعظم في زمن السلطان أحمد خان، فشرع ببناء قلعة حصينة في الإسكندرونة، ولكن السلطان نقم عليه بعد حين لإهمال بدا منه فقتله، وبقيت القلعة دون إكمال، وحبذا لو أكلمت هذه القلعة، وجدد عمران الإسكندرونة، لأنها فرضة بحرية، ذات مكانة، وقريبة من حلب نحو مرحلتين، وقد علمت أنه يزورها في كل عام من سفن المسلمين والإفرنج أكثر من مئتي سفينة من الغليون، وحرمان هذه الفرضة من قلعة جعل الإفرنج يتقاعسون عن دفع المكوس إلى الملتزم، والذي التزمها بمئتي حمل".

ويضيف: "للإسكندرونة قاض يجبي من قراها خمسة أكياس، ولها ميناء لطيف، لولا أن غربيه مكشوف يأتي بالرمل، فيحول دون اقتراب السفن إلى الشاطئ، ويضطرها للرسو على بعد رمية مدفع وإلى الغرب من الميناء، ويكثر وجود الإفرنج والروم في الإسكندرونة، ولهذا لا تجد فيها جامعاً، ولا خاناً، ولا سوقاً سوى الحانات فإنها كثيرة، وقد اعتاد الصادر والغادي إلى الإسكندرونة أن يمكث على ليالي الشتاء في هذه الحانات، وحتى هذه أصبحت تشبه الخانات".


من حلب إلى "أنطاكية العظيمة"

يلفت أوليا جلبي النظر إلى وجود وكلاء قناصل لسبع دول في الإسكندرونة، أما القناصل الأصليون فمركزهم في خان الإفرنج في حلب، وهذا يعني أن إسكندرونة هي ميناء حلب من منذ فترات طويلة، فهي كما يقول أوليا جلبي باب تجارة حلب وضواحيها، تجد بجانب جمركها مخازن عظيمة، ويقوم فيها التجار الإفرنج بالبيع دون انقطاع، ويقول إنه شاهد 26 سفينة من سفن الإفرنج راسية في الميناء.

الصورة
أوليا جلبي - القسم الثقافي
(أوليا جلبي في عمل فنّي)

من إسكندرونة يتوجه أوليا جلبي إلى بيلان، وهي كما يقول مركز قضاء تابع لحلب، فيها نحو ثلاثة آلاف ساكن، ودورها مبنية بالطين على طرفي جبلين متقابلين بينهما واد.

ويقول في وصف هذه البلدة: "بيوت بيلان يركب بعضها فوق بعض، وتتخللها أزقة ضيقة، وهواء بيلان جيد وماؤها عذب، وصحة أهلها حسنة، وفيها مسجد جميل له قبة مكسوة بالرصاص، وأمامه خان عامر، وفيها أيضاً حمام وحوانيت عديدة، وتزرع فيها فواكه وأعناب لذيذة فهي صالحة للاصطياف".

من بيلان يصلون إلى بغراس، وهي قلعة قديمة تتبع حلب، كما يقول، تعاورتها أيدي الملوك كثيراً إلى ان افتتحها السلطان سليم وهو في طريقه إلى مرج دابق لقتال قانصوه الغوري، ومنها يتوجهون إلى أنطاكية التي يصفها بقوله: "سور أنطاكية مبني على خمسة جبال، ونصف قلعتها في منحدرات تلك الجبال، ونصفها الثاني في سفوحها وقرب نهر العاصي، ومحيط هذا السور اثنا عشر ميلاً، ولم أر حتى الآن أسواراً وأبراجاً عالية مثل أبراج أنطاكية، وربما بلغ علو السور الراكب على الجبال في الجهة الشرقية نحو ثمانين ذراعاً، وأما السور القريب من نهر العاصي فواطئ، ولا يعلو أكثر من عشرين ذراعاً كما أنه غير ضخم".

ويضيف رحالتنا: "إذا دخلت من بابي حلب ودمشق وصعدت، ترى أمامك أبراجاً وقللاً يعلو بعضها فوق بعض، وأما الأحجار التي بنيت منها هذه القلل، فهي جد ضخمة، وقد ركبت وألصقت بمهارة كلية، وعلو باب حلب المتجه إلى الشمال نحو عشرين ذراعاً، وكان ينبجس من الصخور في داخله مياه فوارة، وفي غربي هذا الباب جسر عظيم يُعبَر منه فوق العاصي، ولوفرة علو الجبال المحيطة بأنطاكية، وارتفاع الأسوار الراكبة عليها، لا تنتشر الشمس على هذه البلدة إلاَّ بعد ساعتين من شروقها".

ويؤكد أوليا جلبي أن في المدينة ثمانية قصور عظيمة، أهمها قصر كتغاج باشا، فيه كثير من الأبهاء والغرف العديدة المزخرفة، وبابه من الحديد، ويضيف أن أكثر دور أنطاكية الفخمة واقعة على العاصي، وفيها من الأولياء حبيب النجار الذي يزعمون أنه كان من حواري المسيح، وبعد قتله، حفظ رأسه في تكية يزورها ويتبرك بها المسلمون والمسيحيون على حد سواء.


وليمة علي جنبلاط الأسطورية

يشير أوليا جلبي إلى وجود مدارس للعلوم الشرعية في أنطاكية، وكتاتيب للصبيان، وفيها تكية لحبيب النجار يهبط إليها بدرج مليئة بالدراويش، وأخرى في أعلى الجبل في مكان مشرف يوصل إليه في خلال ساعة، وأيضاً يذكر أن فيها حمامات تأتي مياهها من العاصي بالنواعير، وفيها خانات وأسواق وحوانيت عديدة.

ويقول إن مياه هذه البلدة غزيرة، تنحدر من الجبال العالية المحيطة بها، ولذلك ترى سبلها وينابيعها كثيرة، كما أن الفاكهة تجود وتغزر أصنافها في البساتين التي تروى من النواعير الراكبة على العاصي.

بعد أن ينتهي رحالتنا من زيارة أنطاكية، يزمع على مغادرتها في الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، يؤدي صلاة العيد في جامع السوق، قبل أن يضرب نفير الرحيل مع ركب الوالي، فتتوجه قافلتهم جنوباً، ويجتازون الكثير من القرى العامرة، وبعد ثماني ساعات يحلون في قرية الزنبقية القريبة من دركوش في محافظة إدلب الحالية، على شاطئ العاصي، ويقول عن هذه القرية: "تقع الزنبقية في واد خصيب، له كروم وحدائق ذات بهجة، وفيها نحو ثلاثمائة بيت، وقد اشتهرت بجودة تينها وجمال زنبقها، هنا أقام علي باشا جنبلاط لمرتضى باشا وليمة عظيمة لم يسمع بمثلها، فقد أكل كل الجند الذين بمعية علي باشا وعددهم كان ينوف على ستة آلاف، وأكل خلق عظيم لا يسعه الحصر ممن حضر من الجوار، ومع ذلك فقد بقيت الصحون والقدور ملآنة بالأطعمة النفيسة، وأهدى علي جنبلاط باشا، لمرتضى باشا ثلاثة أفراس من الخيول العربية الأصيلة، فقابله مرتضى باشا بفرو من السمور المرصع".


نحو قلعة شيزر

من الزنبقية تستأنف القافلة رحلتها إلى جسر الشغور الذي يصفه أوليا جلبي (الصورة) بأنه "مكان موحش على شاطئ العاصي، وتحيط به مروج خضراء، وفيه خان صغير، على أن الأمن هنا مفقود، نرجو من الله أن يوفق أهل الخير لعمران هذا المكان، وتوطيد الأمن فيه، ليسهل مرور الحجاج منه".

ومن جسر الشغور يسير أوليا جلبي وصحبه جنوباً في أراض صخرية ومستنقعات وآجام، إلى أن يصلوا إلى قلعة المضيق، "وهي قلعة صغيرة من أعمال حلب، بنيت قرب بحيرة تسمى باسمها، فوق هضبة مشرفة على السهول وآجام المحيطة بها"، ومنها هناك غادروا فوصلوا بعد سبع ساعات إلى قلعة شيزر.

المساهمون