ثمة، من بين الروائيين، مَن يرفضون أن يرفدوا اللغة الروائية بأيّ صورة أو استعارة أو مجاز، ويطلقون على الاهتمام بلغة الكتابة: البلاغة الفارغة. إذ إنّ مهمّة اللغة، هنا، هي إيصال الفكرة والحدث فقط، باعتبار أن الرواية حدثٌ يُقال، وخطابٌ يُقَدَّم فحسب. وبسبب هذا الاستبعاد، صارت اللغة في الرواية نحواً خالصاً ينصبّ الاهتمام فيه على صحّة القواعد وصواب الاستخدام المعجمي. أي أن اللغة، هنا، تتحوّل إلى أداة تنفيذية لا شُغل لها غير إيصال الفكرة والمعنى.
وفي هذا الباب تشهد الكتابة الروائية العربية ما يشبه الانقسام بين اتّجاهين حول شأن اللغة ودورها في الكتابة. والانقسام أو الخلاف لا يتعلّق بالنحو والصرف وبناء الجملة وعلاقة الفاعل والمفعول به أو المبتدأ والخبر، بل باللغة من حيث الدور والوظيفة وأشكال استخدام هذا الدور في النصّ الروائي.
ولكنْ إذا تأمّلنا النصّ بوصفه طاقةً مثلاً، طاقةً عاطفية أو روحية أو فكرية، فإنّ قدْراً كبيراً من هذه الطاقة سوف يفسد بسبب رداءة أداة التوصيل، أو بسبب عاديّتها. ومن المعروف في حقلٍ مختلفٍ تماماً هو الكهرباء، أن الطاقة الكهربائية يمكن أن تتعرّض للخلل والنقص في حال اختلفت كابلات نقل الطاقة من حيث جودة الصنع. وقُلْ مثل ذلك عن أنابيب المياه وغيرها من أدوات النقل، وهي أدوات توصيل أيضاً.
يمكن للاستعارة الأدبية أن تدفع الثقافة نحو فهم جديد للحياة
ولهذا، فإنّ وصول المعنى ــ إذا ما ارتضينا بمبدأ أن اللغة أداةُ توصيل فقط ــ قد يتعرّض للفساد أو قد تضيع منه، كما تضيع طاقة الكهرباء، أجزاءٌ هامة في حال كانت اللغة ركيكة، أو كانت مقعّرة وصعبة، أو كانت فقيرة وضحلة. والقضية ليست براعةً في الزخرفة، أو في البلاغة، بل براعة في التوصيل. واللافت أن حياتنا اليومية نفسها لا تتحرّك دون استعاراتٍ مثلاً، بل إن الناس يستخدمون الاستعارة بوصفها حاجة أو ضرورة عمليّة يحتاجها المرء في إنشاء وتمتين علاقة التواصل مع الآخرين في معظم المواقف الاجتماعية التي تتطلّب تبادُل الكلام.
ولدى جورج لايكوف ومارك جونسون، في كتابهما المشترك الذي يحمل عنواناً لافتاً هو "الاستعارات التي نحيا بها" (ترجمة عبد المجيد جحفة، "دار توبقال"، 1996)، جداولُ شديدة الإثارة من ناحية التنبيه إلى استخدام الاستعارة نفسها في الحكي اليومي العادي بين الناس دون أن يكونوا قاصدين. وأفضل ما يشيران إليه هو أن الاستعارة ليست مسألة متعلّقة بالألفاظ، بل بالتفكير نفسه. وهو ما يعني أنّ لكلّ كاتب قدرةً على ابتكار استعارة خاصة به، كما أنّ لكل ثقافة استعارةً تخصُّها، بسبب اختلاف البيئات الفيزيائي، وهذا بدوره يساعد في رسم الخطوط البيانية لطبيعة التعبير لدى الشعوب التي تعيش في أمكنة مختلفة.
هذا ما يضع بعض الكتابات الروائية في مأزق، وخصوصاً تلك التي يتّجه كُتّابها نحو اللغة المغلقة الخالية من أيّ مجاز أو صورة أو استعارة. فابتكار الاستعارة لا يعني إغناء اللغة الأدبية وحدها وحسب، بل دفْع الثقافة نفسها نحو فهمٍ جديد ومبتكر للحياة والمشاعر والعلاقات الإنسانية، بل والعلاقة مع الطبيعة والأشياء، من جهة، وتجديد الثقافات بإضافات استعارية تحاول فهم العالم المتغير من حولها، من جهة ثانية.
* روائي من سورية