ليس لديَّ كلام كثير. كلُّ ما أستطيع قوله، وأنا أتوجّه بالشكر إلى من اختارني لهذه الجائزة التي سأعتزّ بها، أنّ الشعر لا يصنع الأمل إلّا لأن شاعره يأتي من المستقبل. وبوصفي شاعراً سورياً في المنفى استقبلَته ذات يوم خيمة فلسطينية في بيروت، أُهدي هذه الجائزة، برمزيتها الاستثنائية، لطفلَين لاجئَين تنكّر لهُما العالم: طفلٌ فلسطيني أقام الاحتلال كيانه الملفَّق في غرفة نومه وعلى أنقاض كيانه الطفولي وشرّده في أربع جهات الأرض، وطفلٌ سوري حطّم الطغيان عالمه وأرسله ليسكن القبور والمعتقلات وخيام العالم.
يمكن أن نتّفق وأن نختلف في صنيع الشاعر وتعريف الشعر، لكنّنا أبداً لن نختلف في حقيقة أنّ الشعر هو الحُبّ، وأنّ الشعراء يبتكرون الشعر ليصونوا العالَم من الشرّ ويوسّعوا الأفق.
تلك هي المقاومة بالكلمات.
في الشعر أكتبُ نفسي وأكتب آلام السوريّين المتروكين لقدرهم الدموي، وقد دفنهم الطغيان في المراكب الغريقة وحوّلتهم المأساة إلى طرواديّي العصر.
قصيدتي مدينةُ أصوات في عالم تهدّمَت مُدنُه. وهي مدينتهم ومدينة جميع المنفيّين.
عندما تنسج القصيدةُ الشالَ للمرأة والوسادة للطفل والكرسي للشيخ عند باب البيت، عندما ترمي القصيدةُ فتات الخبر للطائر، وتبني المحطّةَ للقطار الذي سيصل غداً بالعائد من الغياب. عندما يُرتّب الشعر الأشياء اليومية الصغيرة بكلمات لم تُسمَع من قبل، عندما يصنع الشعر الدهشة وعندما يخز الضمير ويوقظ الحواس ويلهب الخيال؛ إنّما هو يصنع المعنى الذي من أجله ذهب الشجعان إلى الموت دفاعاً عن الحرية ولأجل فكرة أو موقف.
في البواكير الدمشقية، عندما بدأتُ أكتب في دفتر صغير بخطّ طفولي كلماتي الأُولى المضطربة حسبتُ أنّني أقلّد الشعراء.
واليوم، بعد عقود من العيش بعيداً عن مسقط الرأس، والمغامرة الشرسة مع الكلمات في أمكنة شتّى أقف هنا ليقال لي: أنت شاعر.
شكراً للكلمات التي صدّقتني أكثر مما صدّقتُ نفسي.
المجد لمن آمن بقوّة الكلمات.
* كلمة الشاعر السوري نوري الجرّاح في حفل تتويجه بـ"جائزة ماكس جاكوب" مساء اليوم في باريس