إلى أطفال فلسطين: نخجل منكم ونحبّكم بكاملِ هشاشتنا

07 ديسمبر 2023
طفلة جريحة في "مستشفى شهداء الأقصى"، مخيّم النصيرات / دير البلح، الاثنين الماضي (Getty)
+ الخط -

الكتابة عن أطفال فلسطين حروف تُرشدها دموع إلى حسرة على الصفحات. هي فاجعةُ القلب وارتجاجاته أمام الوحشية الإسرائيلية ضدَّ أطفال فلسطين. الكتابة هنا زفراتٌ من القلب الذي تحوّل إلى أنقاض متكدّسة في معركة الإبادة البشعة التي يتعرّضُ لها شعب فلسطين في غزّة، وأكثر ضحاياها وآلامها من الأطفال. 

يهجرُ أطفال غزّة اليوم الندى وتهجرُهم الحياة. الحياةُ التي يستحقونها عصافير تغرّد وتلتمعُ في عيونهم وعداً من الطبيعة والمستقبل. لا تستطيع الكلمات أن تحرّرَ حتى ولو حجراً، والفلسطينيون أكثر من استثمروا بها، ولكن لا مفرّ، هي الملجأ، تتكئ عليها الروح أمام ضغط العقل على كلّياته، فكلّ ساعة تدقُّ بالقتل، وقتلُ الأطفال لعنةٌ مؤكّدة على كلِّ الدنيا ومن فيها.

آلات الدمار الإسرائيلية لا تتوقّف عن زرع الهلاك والانتقام بأجساد الأطفال في فلسطين، فتحوّلهم إلى أشلاء وإلى هواءٍ يتبخّرُ في سماء هذه الأرض التي لا يمكنُ وصفها أو فهمها. ومن سيمتلك الصفاء الذهني والإحساس المتعالي على الجراح ليحلّلَ ببرودِ أعصابِ بعض المحلّلين الغربييّن عن "حماس" أو المشؤوم "هابرماس" وسط المَقتلة، وينامون نوم العوافي لا لشيء إلا لأنَّ المستهدفين أطفال غيرهم، لا أطفالهم، ولا عائلاتهم التي تنعمُ بآخر الإطلالات التكنولوجية ووسائل الراحة البشرية. 

نخجل منكم يا أطفال فلسطين، نخجل من حرف النداء العربي

تُجَزَّأُ الإنسانية في قلوبهم وعلى ألسنتهم إلى خيرٍ وشرٍ مطلقين. ومن زجَّ به الحال في خانة الشر المطلق في هذه الحياة العشوائية، يُساقُ بالتحليل إلى إبادتهم والإمعان في البطش بهم إلى ما لا نهاية. تباً للإنسانية التي ستحتاج إلى عمليات إنعاش إلى نهاية الحياة وأبعد، لكي نتعافى من موتِ ضمائر الكثيرين ذوي النفوذ في الغربِ والشرق معاً، هؤلاء الذين مراياهم جماجمُ أطفال غزّة ودماؤها.

كثيرةٌ هي المآسي والمشاهد، فمن الأطفال الذين غطى وجوههم رمادُ بيوتهم وحجارتها المهشّمة إلى الأطفال المُكفّنين بالأغطية البيضاء بثيابهم الرثة والدّم المسكين. إلى الأطفال الذين يحضنون آباءهم وأمهاتهم ويصرخون أن يستيقظوا وهم أموات. إلى الأطفال الذين يختلطُ عليهم الحلم بالواقع والنومُ باليقظة. إلى لحظات الوداع المُفجعة للأهل والأحبة. إلى الأطفال الذين يرتجفون من البرد والرعب والعوز ويظهرون بعد القصف وقد قضت عائلاتهم في آخر وليمة موت إسرائيلية أميركية.

إلى الأطفال الذين يتضورون جوعاً وعطشاً ويبحثون في ركام منازلهم عمّا تبقّى من آثار حياة بالية. إلى الأطفال الذين يغنّون "عهد الله ما نرحل..." بينما تحلّقُ فوقَ رؤوسهم طائرات الموت، وتجرّبُ بأجسادهم الأنقى من كلِّ فلسفات الرجل الأبيض آخر الصواريخ من طراز الجحيم المبين.

لكن رغمَ الموت القاسي والحياة الأقسى إلا أن غريزة الحياة تبقى أقوى وأشد، فيتشبثون بها ويمضون إلى ما هو آتٍ من حقدٍ أسود. كلٌّ ينتظرُ المآل، ويبثُّ الضحايا في قلوبنا الأمل الميؤوس منه أن الجنس البشري لا يمكنه أن يسقطَ في براثنِ الوحشية وعدميّة الإحساس إلى هذا الحدّ.

تتكئ الروح على الكلمات أمام ضغط العقل على كلّياته

إنَّ كلّ كلمة تُكتبُ يا أطفال غزّة هي تودّدٌ للرحمة من حيث تأتي علّكم تنجون. ينجو من تبقّى منكم وأهلكم، وتنجون كي تروا روايتكم المجلجلة يوماً ما، وتقولون للدنيا كلّها: ضحاياكم كنّا وما زلنا، وقد رأيتم عيوننا يوماً وهي تبكي على موتِ ضمائركم.

نتذكّركم لنتذكّرَ ونتألم. كم نتألم من عبثِ الأقدار وفجيعة المآل الذي حلَّ بكم. إنّكم في قلوبنا ذكرياتٌ ومعانٍ، وفي عيوننا حياة الخلود أمام جُبن الدنيا وتهافت أصحاب النفوذ.

نحبّكم يا أطفال غزّة، نحبّكم بكاملِ هشاشتنا،
أنتم فلسطين، وفلسطين دونكم هباء،
المشاعر تحرقُ أجسادنا حنيناً
الأشتال الباسقة تحنو على تربة بلادنا
المعاني تحفرُ في أعيننا صوركم  
ونحنُ نراكم، وأنتم مرايانا،
تتحشّدون بنا دموعاً وألماً.

نخجلُ منكم يا أطفال بلادنا فلسطين، نخجلُ من حرف النداء العربي الذي ما عادَ له صدى. نخجلُ منكم، ونعانقكم.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون