إبادة معذّبي الأرض!

10 أكتوبر 2023
امرأة فلسطينية تقف فوق الأنقاض في حيّ الرمال بغزّة، بعد تعرّضه لقصف إسرائيلي وحشي (Getty)
+ الخط -

قالها ما يُسمَّى وزير الدفاع الإسرائيلي أول أمس، بوضوح، وبلا أي تورية. قالها باستعارة مباشرة لخطاب المُستعمِر الذي أفنى أهل أميركا الأصليين. زاعماً أنَّ "الإسرائيليين" يقاتلون "حيوانات بشرية"، وهو يقصد بلغته العنصرية الشعب الفلسطيني. بهذه اللغة، يعتقد ممثّل العصابة التي عرفت طريقها إلى الأمم المتحدة، أنَّه يحكم على أصحاب الأرض، بأنَّهم دون البشر. إلا أنَّهم نوعٌ خاص، ليسوا إنساناً ولا حيواناً، إنَّهم وفق سارتر في مقدمته لكتاب فرانز فانون "معذَّبو الأرض"؛ "سكان أصليون". 

لكنّهم بالنسبة إلينا نحن أهل الأرض؛ نوعٌ خاص بالفعل، لأنَّهم مزَّقوا تلك الأنا الإسرائيلية "المتفوّقة والمتعالية" والاستعمارية. في الأحوال جميعها، فإنَّ الخطاب الإسرائيلي يستعيد أدبيات الاستعمار نفسها، ويضع أمام البشرية خطاباً مثالياً للتمييز العنصري، خطاباً أولى بالغرب أن يحاكمه، لا أن يمدَّه بالعون. لكن مجدّداً تكشف لنا فلسطين، الكثير من الأكاذيب التي يتباهى بها الغرب، منها مسألة العدالة الدولية. فذلك الوزير يشتكي أمام الغرب، ويصدّر للمؤسسة الغربية خطاباً يبرّر الجرائم التي سيرتكبها ضد أبناء الشعب الفلسطيني، باعتبارهم "حيوانات بشرية"، باعتبارهم لا يستحقّون الحياة، ومصيرهم إمَّا الأقفاص أو الإبادة. وهذا حدث الأحد الماضي أمامنا جميعاً، لا في القرون الماضية.

فقَد المستوطن سطوته على المستقبل وارتدّ عنفه عليه

الخطاب العنصري هذا يمثّل جوهر "إسرائيل"، ولا يأتي من جرَّاء عملية "طوفان الأقصى" التي قام بها الفلسطينيون. لا يأتي من جرَّاء تمزيق الأنا. وإنَّما هو جوهر الكيان الذي زعمت عصاباته أنَّها جاءت لتملأ أرضاً بلا شعب. "إسرائيل" ذاتها، ليست إلا تركة من الاستعمار القديم، أو هي إحدى حصونه، إنَّها معتدية بمجرّد وجودها. ويُمكن قراءة أنواع الخطابات التي تلقي باللائمة على الفلسطينيين في أجواء التطبيع العربي، بعضها على أنَّه حرص على الدم الفلسطيني. لكن بعضها يأتي في السياق الذي يهدف إلى تصفية هذه القضية، وإلى تمييعها. وكأنَّما القضية الفلسطينية عمرها أشهر أو سنوات، وكأنَّما كادت انهيارات الربيع العربي أن تمسح من الوعي العام، قضيةً عمرها سبعة عقود تشكّل صميم الوجدان العربي. 

وقد جاءت استعارة "الوزير" الإسرائيلي عدا عن الهمجية وحرب الإبادة، كي تصفع الجميع، العرب المطبعين خصوصاً، فهم مجرَّد أشباه حيوانات لا تليق بهم الحياة، ولا يستحقّون أرضهم. هكذا هُم في العيون الاستعمارية. استعارة يراها "الوزير" الفاشي طبيعيَّة، بلا شك، فهي مؤسسة على إرث يبدو أنَّ البشرية، ككل، لم تتجاوزه بعد. لأنَّه خطابٌ أساساً وجَّهه ما يُسمَّى وزيراً للدفاع في كيان الاحتلال، كي ينالَ دعم الغرب، كي ينال حظوة الغرب، وكي يدغدغ الأنا الاستعمارية التي تتعرّض للتقييد والانحسار في أماكن عديدة من العالم. وليس من الغرابة أن تمثّل فلسطين، عقدة في نضال عالمي. الغريب أن نجد بيننا من يقزّم النضال الفلسطيني الطويل إلى عراكِ بين أحزاب، وإلى نقاشٍ في هوية الأحزاب وفيما تمثله من عقائد. وربما ضعف الشعور العام بالقضية الفلسطينية هو ما تسبَّب أساساً بنمو توجهات فكرية أو دينية أضيق تعاني منها المنطقة. 

معذّبو الأرض هؤلاء مزّقوا الأنا الصهيونية المتعالية

إذاً، مقابل الخطاب الواضح للوزير الصهيوني، يلحظ المراقب خطاباً نخبوياً عربياً. يدمغ مسألة فلسطين بمسائل التغيير السياسي في المنطقة. وربما موقع الصواب الوحيد في هذا الرأي، أنَّ الأنظمة خصوصاً التي تشكّل طوق فلسطين، كثيراً ما قهرت شعوبها بحجّة وجود الكيان الغاصب والتوسّعي على حدودها. هذا أمرٌ واقع. مهما ساء البعض الاعتراف به. إلا أنَّه على صوابه، لا يبلغ أن يكون هامشاً مقتضباً أمام سجال دموي تريد العصابة التي عرفت طريقها إلى الأمم المتحدة، أن تمليه على شعب أعزل ومحاصر. 

ومع ذلك؛ نراه يخترق الحصن الإسرائيلي ويخطف جنوداً إسرائيليين. ويُدافع عن حقه في ردع الهمجية الإسرائيلية التي تدنِّس المقدّسات وتعتقل الآلاف وتقتل الأطفال بلا حساب. وأبعد من المقاربة التي تطلقها بعض النخب؛ فالقضية في فلسطين، ليست تغييراً سياسيّاً، ليست معركة انتخابية، ليست حرباً أهلية، ليست صراعاً على السلطة، ليست ثورة ضدَّ نظام - ولو أنَّ جميعها صراعاتٌ يمكن أن تُفهم في سياقاتها - إلا أنَّ الصراع في فلسطين أكثر بدائية - عدا عن مبدئيته-، وليس من الحرج الاعتراف بأنَّه من تلك الصراعات النادرة التي تقسم العالم إلى معسكرين متمايزين. بما تمثّله فلسطين من قضية تحرّر، وبما تمثّله "إسرائيل" من اغتصاب للأرض والحقوق.

الحرص على الدم الفلسطيني لا يكون بتصفية قضيته أو تمييعها

وضوح الخطاب الصهيوني، الذي يصف مجموعة من الناس المُحاصرين، من أهل البلد الأصليين، الذين نزع عنهم أبسط حقوق العيش الكريم وحقّ السفر وحقّ الحياة نفسها؛ ربما يسحب الذريعة من نخبة ضالة لا تزال تناور أمام الحقائق. ولا تريد الاعتراف بأولوية القضية الفلسطينية، كنضال لا يجب أن تشوّشه الصراعات الهامشية مهما بلغ ضجيجها. الصراع العربي الصهيوني لا يحتمل الفذلكة؛ فهو يجري بين من يملك الأرض والتاريخ، وبين من يسطو على الأرض ويزيّف التاريخ. 

أياً كان مآل الحرب الدائرة الآن، فقد أعاد الخطاب الإسرائيلي الفاشي بعضاً من المفردات التي زيَّفتها المآلات المؤسفة للربيع العربي، ولموجة التطبيع. إذاً، قالها الوزير الصهيوني بوضوح وللعرب جميعاً، وببعض التصرّف في كلماته؛ أنتم أشباه بشر ما إن تطالبوا بحقوقكم، ما إن تسعوا كي تنالوا حقوقكم بالطريقة التي نزعناها منكم. أنتم تقبعون في مرتبة بين البهيمة والإنسان. يمكن أن تكونوا حيوانات داجنة أليفة عندما تخضعون لنا، نحن البشر التامّين. لكنكم في عيوننا الاستعمارية المتعالية، لن تصيروا بشراً مثلنا سِوى في التوابيت.

أيضاً بالعودة إلى مقدّمة سارتر، فمحتوم زوال الاستعمار. لأنَّ المستوطِن لا يستطيع المضي إلى حدِّ إبادة النوع، ولا يستطيع أن يجعل من البشر بهائم. وسرعان ما ينقلب العنف عليه، سرعان ما يفقد المُستعمِر سطوته على المستقبل، حيث تختزن الأجيال المتعاقبة العنف الذي مورس عليها، ثمَّ تردُّه في لحظات، كالتي نشهدها. 


* روائي من سورية

المساهمون