أين تعثر على الجوهرة الضائعة في غابة الميديا؟

19 نوفمبر 2022
زوّار أمام عمل للرسام الفرنسي راؤول دوفي في "متحف الفن الحديث" بباريس (Getty)
+ الخط -

عصرُ الميديا هذا أضاع العالم وأضاع الإنسان، لم تعُد هناك مرجعيات وثوابت يعود إليها الشاعر والكاتب. قُلبت الموازين، نحن عرضة في أي لحظة للتلاعُب بوعينا، لتسميمه. صِرنا عرضة لأيّ كان يكتب أيّ شيء؛ لم تعد هناك شخصيات مرجعية كبيرة، شخصيات من أصحاب الكلمة المسموعة في ميدان النقد الأدبي. لم يعد هناك ما يُسمَّى في الفرنسية بـNOTORIETES، باستثناء بعض الأسماء النادرة التي لا بدّ أن نبحث عنها، لأن الفكر العميق ليس في متناول أيٍّ كان.
 
كانت العرب تقول في هذا المعنى: "لا يُفتى ومالك في المدينة"؛ أي أنه لا بد من وجود جهة مرجعية تقومُ بحماية أيّ ميدان ثقافي معرفي، من اقتحام السوقة والمتطفّلين. اليوم اختفتِ المرجعيات، وصار عالم الكتابة والنشر خاضع لقانون الغابة الافتراضية والسوق، (لا أتحدّثُ عمّن ينشرون أعمالهم على حسابهم، ما يعني أن المال صار مقياس النشر وليس الجودة). وصار كثير من الكُتّاب والشعراء يسوقون أنفسهم كما لو أنهم بضاعة لا تختلف عن زجاجة كوكاكولا! في هذا العالم لا بد لك أن تبحث وأن تجدّ في البحث حتى تظفرَ باسم حقيقي.

أي قدرات خارقة تتمتّع بها لتخترق غابة النصوص الافتراضية هذه 

ولكن من أنت وأي قدرات خارقة تتمتّع بها لتخترق غابة النصوص الافتراضية هذه، وتعثر على الجوهرة الضائعة في غابة الميديا؟ ألم تضعْك الميديا في عالم سديمي غير محدّد المعالم. الميديا التي غيرت علاقة الإنسان بذاته، وبالتالي بالعالم. وكما أنّ هناك شعبوية سياسية تتمثّل في سلوك الناخب الذي يأتي بحكّام شعبويين يتطابقون مع عالمه؛ هناك شعبوية أدبية وشعبوية فكرية سائدة يغصّ بها العالم الافتراضي. وفي ظلّ وجود هذا الدفق الخرافي للمعلومات، الدفق الذي يحتوي على كثير من الفيروسات الثقافية التي تسبح في الشبكة العنكبوتية، والتي من الصعب استقصاؤها والتخلُّص منها، قد تعثر في فيسبوك على سُوقي ينتقد نظرية آينشتاين، وآخر يرى في خطاب فرويد الجنسي بذاءة.
 
ذات يوم اقترح علي شاعر في عقده الرابع، أن أنشر له مجموعة شعرية، قُلت بكل تواضع: أُنا أعيد نشر نصوص صغيرة على شكل كراريس، لشعراء كبار مُكّرسين مع ترجمتها العربية، مثل سان جون بيرس وهنري ميشو، وجورج سيفيريس.  

أجابني: شو الفرق؟ أنت تعتبر فقط شعر بيرس مُهمّاً، أنا أيضاً أكتب الشعر.
 
قلت: هل تقارن نفسك بسان جون بيرس؟

أجاب: لا، ولكن أنا أيضاً شاعر ومن أدراكَ أني لستُ مُهمّاً. وصمت لحظة ثم أردف في لهجة يشوبها النقد، وشيء من التهكّم: أنت تقدّس سان جون بيرس.


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون