يبدو كأنّ الحرب قد آلت أخيراً لأن تكون مسؤوليّةً روائية في حقول الأدب. وفي الغالب انتهى عصر الشعر الذي يكتب الحرب، منذ نهاية عصر الملاحم، ولم يعد يُسأل الشاعر عمّا كتبَ عن الحرب في شعره. ولا أحد يسأل المسرحي إن كان قد كتب الحرب في مسرحية، فلا يستطيع المسرح استيعاب الحرب قطعاً، بل لا يستطيع استيعاب مشاجرة صغيرة على خشبته، فيمضي المسرحي إلى تأمّل الأسباب والنتائج إذا أراد ذلك. بينما تؤكّد الوقائع أن الروائي سوف يُسأل دائماً عمّا فعل بالحرب، كيف سجّل وقائعها، وماذا قال عنها، ومَن هُم الأبطال الذين اختارهم للمشاركة؟ لقد ورثت الرواية الملحمة، وهي فخورة بذلك، وعليها أن تدفع ضريبة الوراثة المقرّرة في صندوق الأدب.
أوّل ما يخطر في البال "الحرب والسلم" لتولستوي، "لِمَن تُقرع الأجراس؟" لهمينغواي،" كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية" لإريش ماريا ريمارك، وهناك المئات من الروايات التي جعلت همّها أن تكتب عن الحروب. ولكنّ "الحرب والسلم" هي الرواية الأكثر اهتماماً بتصوير الحرب من بين جميع الروايات التي كان هذا الموضوع شاغلها. ثمّة من قال: لو أعيدت معركة بوردينو بين الروس والفرنسيين فلن تحدث بطريقة مختلفة عن التي صوّرها تولستوي. حسناً، وماذا بعد؟ ما هي الفضائل التي كسبتها البشرية من أنّ روائياً عظيماً مثل تولستوي صوّر تلك المعركة بالكلمات تصويراً فذّاً؟ ولا فضيلة لهمينغواي أيضاً في روايته "لِمَن تُقرع الأجراس؟" في سجّل الحرب التي كتب عنها، غير أنّ الروائي يرهن ما تبقّى من روايته لقصّة الحبّ التي طغت بقوّة على ضجيج الحرب.
عدد الضحايا الذي تخلّفه الحروب بات لا يحتمله الوجدان الإنساني
وإذا كان هذا سبب شهرة "لِمَن تُقرع الأجراس؟" وترجمتها إلى معظم لغات العالم، فإنّنا أمام معنىً وجدانيّ عميق، يقول إن قرّاء الروايات يفضّلون الحبّ على الحرب. من الصعب أن تجد من يتحدّى هذه المقولة. هي حقيقة إنسانية يردّدها بنو البشر في معظم أرجاء المعمورة. ومع ذلك، تشتعل الحروب وتُدمِّر الحبَّ والصداقة والعلاقات البشرية. لماذا نكتب رواية الحرب إذاً، ولماذا نقرأ الرواية؟ هل نقرأ الرواية لأنّنا نرغب في الحرب، أم كي لا نشارك فيها؟
وماذا عن الروائيين؟ الواضح أنّ عدد الضحايا الذي تخلّفه الحروب بات لا يحتمله الوجدان الإنساني، وصورَ المذابح التي يرتكبها المتقاتلون صارت تصدم الضمائر، وما عادت الحروب تأتي بأيّ نتيجة غير الخراب والدمار. ولكن هل يمكن للروائي ألّا يؤيّد أيّ فريق من المتحاربين؟ هل تستطيع الرواية أن تُنهي هذا المأزق الرهيب الذي ورثته من أمّها الملحمة، أيْ أن تترك المتحاربين بلا أي غطاء أدبي؟ أغلب الظن أن الجواب: لا.
لن يكون بوسع الروائي والروائيين التخلّي عن مساندة المقاتلين من أجل الحرية. تلك هي الحروب العادلة. ولكنّ المشكلة سوف تبقى على حالها، فكلّ قتال يتضمّن العنف والموت، وهذا هو المأزق الأخلاقي والفكري للرواية والروائيين. إذ إنّ على الروائي أن يُسمّي القتل عدلاً في هذه الحروب. ولكنّ كلمة "العدل" لا تُزيل الدماء عن الأيدي. فأين المفرّ؟
* روائي من سورية