في عام 1982، أُقيمت محاكمة شعبية في أوسلو للقتلة الذين ارتكبوا مجزرة صبرا وشاتيلا بدءاً من السادس من أيلول/ سبتمبر من تلك السنة وعلى مدار ثلاثة أيام. أدلى أكثر من ستّين شخصاً ممن شهدوا المجزرة بشهاداتهم، كما قُدّمت خلال المحاكمة أدلّة الطب الشرعي على المقتلة بعد شهرين من ارتكابها.
كان الكاتب الفرنسي جان جينيه أحد الذين قدّموا شهاداتهم في تلك الواقعة؛ حيث روى أمام الحاضرين، بدقّة، جرائم الحرب التي رآها بأمّ العين، إلى جانب شهادات أُخرى مدعومة بالصور والوثائق التي تفصّل قيام مليشيا الكتائب اللبنانية بقتل المدنيّين الفلسطينيّين في المخيّمين الواقعين غرب بيروت، بمساعدة جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين حاصروا المخيّمَين وعزلوهما عن العالم.
اختفت التسجيلات التي توثّق المحاكمة عن الرأي العام لعقود عدّة، قبل أن ينفض عنها الفنّان الفلسطيني أيمن الأزرق الغبار ويقدّمها في معرضه "الأشرطة المفقودة لمحكمة الشعب، 1982"، الذي افتتح في "غاليري الصور" بالعاصمة النرويجية، مطلع كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي ويتواصل حتى الرابع من آذار/ مارس المقبل.
يضمّ المعرض أرشيفاً ثرياً؛ حيث جمع الفنّان صوراً فوتوغرافية للشهود والمشاركين في المحكمة، وتسجيلاتها كاملة تزيد مدّتها عن أربع عشرة ساعة، إلى جانب ملصقات ونصوص ومقالات تتعلّق بسير المحاكمة، توضّح للمشاهد السياقات السياسية التي شهدتها النروج، وعدد من الدول الأوروبية، في تلك الفترة.
روى جان جينيه أمام الحاضرين جرائم الحرب التي رآها بأمّ عينه
كما يثير المعرض جملة من التساؤلات التي تتّصل باللحظة الراهنة، حيث تحاكَم "إسرائيل" دولياً لارتكابها جرائم إبادة بحقّ الشعب الفلسطيني في غزّة، وسط تشكيكات في إمكانية تحقّق العدالة بسبب الانحياز الغربي لكيان الاحتلال، إذ إنّ المواد المعروضة تكشف تأليف لجنة دولية مستقلّة اجتمعت في أوسلو من ستّة أعضاء من البرلمان البريطاني، بالإضافة إلى خمسة أساتذة قانون من الولايات المتّحدة وفرنسا وأيرلندا وإنكلترا وألمانيا الغربية، وجرى تكليفهم بالتحقيق في انتهاكات القانون الدولي في لبنان.
وكانت النرويج قد أرسلت حينها بعثات طبّية وصحافية لمتابعة الأحداث عقب مجزرة صبرا وشاتيلا، ما قد يفسّر اختيارها مكاناً لهذه المحاكمة. لكن الملاحَظ، بحسب ما تقدّمه وثائق المعرض، افتقار موقع الجلسات إلى البنية التحتية اللازمة لمحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، لكنّه شكّل فضاءً للاستماع إلى روايات الشهود بشكل مستقلّ وخارج نطاق الولاية القضائية، لذلك جرى تجاهل مخرجات تلك الجلسات من قبل المؤسَّسة الرسمية.
بعيداً عن تهرّب الحكومات الغربية عن إدانة واضحة لجرائم "إسرائيل"، وتحميلها تبعات قانونية وسياسية لذلك، فإنّ المعرض "يقدّم معلومات كافية حول حركات التحرّر ودور الفن والثقافة في تشكيل أرشيفات، يتمّ تقديمها لأوّل مرّة لتكون في متناول الجمهور"، بحسب بيان المنظّمين الذي يشير إلى أنّ الفن يلعب دوراً حيوياً في الشفاء من الآلام، والتذكّر حتى عندما يبدو ذلك مستحيلاً، كما هو الحال في اللحظة الراهنة.