"أنجيليك" لـ غيوم ميسو: ما بعد الرواية البوليسية

23 يونيو 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- "أنجيليك" رواية بوليسية معقدة تبدأ بوفاة راقصة الباليه ستيلا تبرينكو، وتشكيك ابنتها في طبيعة وفاتها، مما يدفعها للبحث عن الحقيقة بمساعدة محقق متقاعد.
- تكشف الرواية عن ممرضة تحولت إلى قاتلة، تستغل موقعها لارتكاب جرائم بدافع الطمع، مضيفة طبقة من الغموض والتشويق بكشف دوافع وخلفيات الشخصيات.
- تتجاوز الرواية حدود النوع البوليسي، مقدمة بازل روائي يمزج بين البوليسي والمغامرة بطريقة تجعلها تجربة قراءة فريدة ومثيرة، بفضل تطورات الشخصيات والأحداث المتشابكة.

"أنجيليك" هو عنوان أحدث روايات الكاتب الفرنسي غيوم ميسو (1974)، الذي لم تُخطئ "دار نوفل"، ناشرة ترجمتها إلى العربية بتوقيع سمر معلوف، حين عرّفته بأنّه الكاتب الأكثر قراءةً في السنوات العشر الأخيرة. الرواية هي، على نحوٍ ما، رواية بوليسية. هي فضلاً عن ذلك رواية مغامرات وحركة. رواية بوليسية، لكن إذا كان عهدُنا بهذه الروايات أنّها بحثٌ عن القاتل في جريمة، غالباً ما تتصدّر الرواية. إذا كان عهدنا كذلك بالرواية البوليسية، فإنّ "أنجيليك" ليست بهذا السياق.

نعرف من البداية أنّ ستيلا تبرينكو، راقصة الباليه، قد ماتت، وابنتها لويز تشتبه بأنّها ماتت قتلاً. تُفضي بهواجسها هذه لمُحقّق متقاعد هو ماتياس تايفر، الذي تزوره في مستشفاه، حيث كانت تتعالج، بزعم أنّها جاءت لتعزف له ضمن برنامج العلاج بالموسيقى. لا نتأخّر حتى نعرف أنّ شكوك لويز في محلّها. والدتُها ليست الوحيدة التي قضت على هذا النحو، بل أيضاً جارُها الرسّام ماركو ساباتيني. أمّا القابلة فهي الممرّضة التي حلّت محل أُخرى لم يسعفها وقتها لتمضية الشهر كلّه في العناية بالمريض، الذي هو رسّام لا يرسم سوى نفسه بعينَين من دون بؤبؤ، في نوع من تخيُّل نفسه ميتاً حيّاً، إ إنّه أطلق على لوحاته المحصورة بهذا الموضوع "جيش الأموات".

الممرّضة، التي وجدت الطريق للمرور على شقّة ماركو، سرقت لوحات له وباعتها، وقرّرت أن تحتال على أهله الأثرياء، أصحاب شركة ناجحة في البندقية، بالادعاء أنّها صديقته وأنّها حامل منه. لكن ادعاءً كهذا لا يصحّ إذا بقي ماركو حيّاً. لذا، كممرّضة خبيرة، عمدت إلى حقنه بحقنة قاتلة. بقي عليها أن تقتل الراقصة التي خشيت من أن تفضحها أمام أهل سباتيني، وبالفعل صعدت إلى شرفة الراقصة ودفعتها لتسقط ميتة.

مفاجآت الرواية ليست فقط من الجريمة. إنّها تأتي من كلّ مكان

نحن نعرف القاتلة، وقد يُخامرنا خاطر بأنّ الرواية تنتهي هنا، وأنّ الروائي تعجَّل هذه النهاية، لكن غيوم ميسو يفعل ذلك كحلقة في الرواية، ربّما ليُغيّر في نمطها. إنّه يتجرّأ على أن يُسمّي القاتل، بدون أن يقف عند ذلك. بالعكس، فإنّ الرواية تبدأ من هنا.

لقد نجحت أنجيليك في خطّتها، وها هي، مع أهل الرسّام في لعبتها التي تلت جريمتيها، وكانتا بسببها سبيلاً إليها. أُمّ الرسّام عزاها أنّها وجدت صديقةَ ابنه المزعومة، وأهمّ من ذلك أنّها حامل منه، وستُنجب عقباً له. إنّه هكذا الزومبي الذي سيطر على خياله واستمدّ موضوعه منه، ميت حيّ مثل لوحاته. تعيّن بيانكا، صاحبةُ الشركة والنافذة فيها وأمُّ الرسام المتوفى، أنجيليك مستشارةً في الشركة، وتعود برفقتها إلى البندقية. سيكون الوقت قد حان لنتعرّف إلى الراقصة الميتة، على اجتهادها لتغدو نجمةً في الرقص، الأمر الذي نجحت فيه نصف نجاح، إذ ما لبثت أن نُحّيت وتقاعدت، الأمر الذي لم تُطقه.

لنتعرف أكثر إلى ماتياس تايفر الذي سبقت له علاقة حميمة مع لبنانية فرنسية، لم تلبث أن أدارت وجهها عنه، ثم إنّنا سنعرف أيضاً أنّه، بعد تقاعده، تعاون مع جماعة غرضُها الأوّل أن تنتقم من المجرمين مباشرةً؛ إذ لا ثقة لها بالدولة وقضائها، لذا كانت تُكلّف أشخاصاً بهذا الانتقام، كان ماتياس من بينهم. لنتعرّف أيضاً إلى محيط الراقصة وجيرانها، كما سنعثر على صور لها أثناء مضاجعة مع أشخاص كثيرين. هذه الصور كانت اتّفقت عليها مع جارها المتوحّد لتبتزّ بها هؤلاء الأشخاص، وتبيعها لهم مقابل مال يعينها على أن تستمرّ في العيش بعد تقاعدها، هي المُسرفة.

سنعرف أنّ ابنتها لويز ليست ابنة الرجل الذي نسبتها الراقصة إليه. سنعثر على ما يبدو قصصاً داخل القصّة الواحدة. لم يكن اكتشاف القاتل وحده همّ ميسو، بل سرعان ما قفز عنه وكأنّه يُثبت بذلك أنّ الرواية البوليسية ليست فقط ذلك، بل يمكن أن تتجاوزه مع بقائها بوليسية، بل ورواية مغامرات أيضاً.

تبدو "أنجيليك"، لذلك، نوعاً من بازل روائي، أجزاؤه تكاد جميعُها تأتي ممّا بعد الرواية، بل يبدو أنّ مفاجآت الرواية ليست فقط من الجريمة وما تلاها. المفاجآت تأتي من كلّ مكان، إنّها حول الرواية وفي سياقها. ثمّة هنا رواية جديدة بوليسية بقدر ما هي مغامرات وحركة. "أنجيليك" هي بذلك اختبارٌ روائي له خصوصيته، في كونه يجمع أنماطاً إلى بعضها، من كونه يعطي الرواية البوليسية حضوراً آخر ويصل بينها وبين الروايات كلّها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون