تنشغل الباحثة في علم الاجتماع في "الجامعة الأميركية" ببيروت، أناهيد الحردان، في كتابها "الفلسطينيون في سورية: ذكريات نكبة مجتمعات ممزقة" الصادرة نسخته العربية عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" هذا العام بترجمة أنجزها محمد الأسعد، بتقصّي نكبة عام 1948 وفق منهجية ترصد ما بقي من النكبة في وجدان اللاجئين الفلسطينيين بعد ما حلّ بهم في أثناء أحداث 2011 في سورية وما تلاها.
تكتب في هذا الصدد: "لم تعد النكبة حدثاً بعيداً في الماضي يواصل إظهار نفسه عن طريق تشرد وحرمان مستمر من وطن، إنها نكبة تحدث في الزمن الراهن بتدمير المجتمعات الفلسطينية مرة أخرى أيضاً، وقطع روابطها الزمانية والمكانية والمادية والشخصية في سورية".
من هذه النقطة المركزية تقدّم الباحثة مجموعة من المقابلات أجرتها مع أفراد الجيل الأول والثاني والثالث للاجئين الفلسطينيين في سورية، تابعت من خلالها تطوّر النكبة - الدال الرئيسي على ماضي اللاجئين الفلسطينيين وحاضرهم - في الخطابات الفكرية العربية، والسياسات السورية إزاءهم، وميكانيزمات تعامل المجتمع معها.
تصف الكاتبة هؤلاء الرواة بأنهم "حماة النكبة" لأنهم، من بين الأجيال الثلاثة التي مرت منذ 1948، هم الوحيدون الذين يتذكّرون ما حدث. تقدم المؤلفة شهادات الفلسطينيين في سورية من الأجيال الثلاثة، وتنشغل بإبراز مفارقة كيف تختلف روايات الجيل الأول عن أولئك الذين لديهم مسافة زمنية فاصلة عن الحدث.
مرّت ستة عقود حتى تمرّ النكبة من الإنكار إلى القبول الأكاديمي
تبدأ الباحثة باستكشاف المعنى المتغيّر للنكبة في الفكر العربي، من كونها حدثاً كارثياً في سياق القومية العربية، إلى ظهورها مجدداً كمفهوم سياسي فلسطيني بعد "اختفاء" قصير من الخطاب الأكاديمي. وترى أن عودة ظهور مفهوم النكبة في الأوساط الأكاديمية مرتبط بحركة التأريخ الإسرائيلي التنقيحي لماضي "إسرائيل"، أو ما بات يعرف بحركة "المؤرخين الجدد الإسرائيليين"، بمعنى أن "نكبة 1948 أصبحت مقبولة باللغة الإنكليزية فقط بعد أن أوضحها المستعمرون". وتشير كذلك إلى أن الأمر "استغرق ستة عقود حتى تمرّ النكبة من الإنكار (الصهيوني المستمر) إلى القبول الأكاديمي الناطق باللغة الإنكليزية، منزوعاً آثاره الأخلاقية والمعنوية فيما يتعلق بحق العودة".
تقترح الباحثة أن فكرة الذكريات التي تتذكرها مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين الذين شُردوا منذ ما يقرب من سبعة عقود هي أساسية لفهم النكبة في إطار وجود أكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم اليوم، إلا أن الأمر الآن يتعلق بمخيم اليرموك للاجئين والمجتمعات المحيطة بدمشق، حيث تركز الباحثة على كيفية مساهمة ذكريات اللاجئين الفلسطينيين في سورية في فهم تمظهرات النكبة.
يركّز الكتاب في جوهره على أربع قضايا رئيسية تشير إليها الكاتبة، أولها، أنه يعيد النظر في النكبة كدالٍّ محتمل تاريخياً وسياسياً. وهذا يعني أن الكيفية التي يجري بها الاحتجاج في الخطابات الرسمية الفلسطينية تزيح ذلك كله الذي يقاس على أساسه كيفية اختيار الناس لتذكر أو سرد نكبة عام 1948. وتعتبر الباحثة أن هذا هو أحد المزالق الرئيسية لـ"طفرة الذاكرة" الفلسطينية التي انتشرت على مدى العقدين الماضيين. باعتبار هذه الخطابات ليست افتراضاً جذرياً تتوقف الدراسات أمامها ولا تتجاوزها، ولكن في الأدبيات الناشئة عن النكبة، يُترجَم عام 1948 تلقائياً إلى الحدث الكارثي الفريد الذي حدد التجربة الفلسطينية الحديثة. ومع ذلك، فإن الناجين من الأحداث الصادمة وأحفادهم لا يتذكرون بالضرورة هذه الأحداث الشخصية والعائلية العميقة بطرق تؤكد أهميتها القومية أو الوطنية، "إنهم يحتفظون بذكريات ما حرمتهم منه النكبة بدلاً من ذكريات النكبة نفسها"، تقول الباحثة.
شطبت النكبة من دراسات الذاكرة الأوروبية وقوبلت بصمت مطبق
وثانية هذه القضايا أن الكتاب يتناول مسألة المركزية الأوروبية لدراسات الذاكرة التي لا تظهر فيها فلسطين والنكبة. إن شطب النكبة من دراسات الذاكرة الأوروبية تتناسب عكسياً بالضرورة مع تصوير ذاكرة الهولوكوست اليهودية الأوروبية وتكتفي بها. في هذه الأعمال، "إسرائيل" هي الملاذ المفترض للاجئي الهولوكوست، مع صمت مطلق يحوم حول الإبادة والسلب والقمع المستمر للمجتمع الفلسطيني الذي استتبعه وجود "إسرائيل".
ثالثاً، تأخذ الدراسة على محمل الجد ما قاله المفكرون العرب والفلسطينيون عن عام 1948 على مدار العقود السبعة الماضية، حيث لا يمكن المرء ببساطة تقديم ادعاءات حول الفلسطينيين والمجتمعات العربية بشكل عام دون أخذ نتاج هؤلاء الفكري والنظري بجدية.
وأخيراً، تتناول الدراسة الموضوع الفلسطيني في سورية. حتى الآن لا توجد دراسة أكاديمية شاملة باللغة العربية أو الإنكليزية للتجربة الفلسطينية في سورية، على الرغم من أن هذه التجربة اتسمت بالخصوصية الشديدة بالمقارنة مع أي مكان آخر وُجِد فيه اللاجئون.
تشير الباحثة إلى أنه مع نشوب الحرب في سورية، اتخذت النكبة بالنسبة إلى الفلسطينيين معنىً جديداً، لم يعد الأمر يتعلق بما حدث في عام 1948 فحسب، بل يتعلق أيضاً بالتدمير الممنهج الذي تعرضت له التجمعات الفلسطينية التي عاشت في سورية على مدار 67 عاماً. إذ إنه قبل اندلاع النزاع السوري في عام 2011، كان هناك أكثر من 160 ألفاً من اللاجئين الفلسطينيين يعيشون في مخيم اليرموك للاجئين، الآن بقي ما بين 2000 إلى 4000 فقط، فضلاً عن إمعان "إسرائيل" وحلفائها الدوليين في تقليص أي فرصة للفلسطينيين للعودة إلى وطنهم. مع أخذ ذلك في الاعتبار، يصبح هذا النوع من الشهادات والذكريات الموثقة لدى الفلسطينيين في سورية ضرورية أكثر من أي وقت مضى.
تستكشف الباحثة في هذه المقابلات "الهوة التي لا يمكن جسرها" بين خطاب "القيادة غير الخاضعة للمساءلة" المتمثلة بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و"الدائرة المهجورة منذ فترة طويلة" للاجئين خارج فلسطين التاريخية. استخدم هؤلاء اللاجئون الناشطون بعد أوسلو تقنيات اكتساب الذاكرة الشفوية وتعميمها من أجل تعزيز حقهم في العودة المهدد سياسياً.
يوضّح هذا المثال كيف استُخدِمَت الذاكرة كأداة اجتماعية وسياسية لمحاولة خلق "ثقافة عودة" على خلفية الإقصاء السياسي واهتزاز الثقة بالقيادة الفلسطينية التي قدمت تنازلات في بعض خطاباتها الرسمية عن جزء من هذا الحق. استُخدمت ذكريات النكبة شديدة الخصوصية لجيل فلسطين في هذه الحالة لمحاولة ضمان عدم نسيان الشباب (في مقابل مراهنة الصهاينة المؤسسين على موت الجيل الأول واندثار العودة من الوجدان)، على الرغم من المسافة الزمنية بينهم وبين وطنهم البعيد نسبياً.
* كاتب من فلسطين