بعض الأصدقاء اتّصلوا بي، يريدون التأكّد من أنّ الشاعر الإسباني لويس غارسيا مونتيرو سيكون حاضراً في طنجة. والمناسبة تكريمٌ أعدّته له إحدى الجمعيات في مهرجانها الشعري الدولي. والواقع أنّ الجهات المنظّمة اتّصلت بي لمساعدتها في بعض الجوانب المتعلّقة بالتكريم، خاصّةً أنّ الشاعر المحتفَى به، والجماعةَ التي كانت سترافقه، كلُّهُم من أصدقائي.
كنتُ أعرف أنّ هناك احتمالاً كبيراً ألّا يجري التكريم، لأنّ الدائرة الضيّقة من الأصدقاء تعرف أنّ الطبيب التمس من مونتيرو ألّا يغادر مدريد، لأنّ ألمودينا غرانديس، زوجته ورفيقة دربه، تحتضر. طلب منّي في البداية ألّا أُفشي الأمر، وبعد ذلك طلب منّي إبلاغ المنظّمين بما يحدث وباستحالة مغادرته مدريد...
في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، وأثناء انعقاد المهرجان، غادرَت ألمودينا غرانديس عالمنا عن واحدٍ وستّين عامّاً، بعد صراع مع السرطان، في المدينة التي عمّدتها بسلسلة من الروايات التي تُعتبر، بحقّ، ذاكرة تاريخية للحرب الأهلية الإسبانية، بل هناك من يعتبر أنّ هذه الملحمة الأدبية تُعيد الاعتبار للمهزومين في حرب لم تكن عادلة، وجاءت لتهزم شرعية الجمهورية، وتفرض دكتاتورية عسكرية متسلّطة بزعامة فرانكو، وستنتهي بالعديد من الكتّاب والشعراء الإسبان في المنافي والسجون، أو ستسلّمهم إلى الموت، كما هو حال فديريكو غارسيا لوركا وميغيل هرنانديث...
والواقع أنّ الحديث عن الروائية الإسبانية الراحلة (1960 - 2021)، التي عرفت بمواقفها المساندة للقضية الفلسطينية، يقود باتجاه العديد من المسارات؛ أوّلها أن غرانديس أعادت للإسباني المهزوم الحقَّ في تصوير مأساته غير العادلة بكثير من الموضوعية والجمالية الأدبية، هي التي كتبت من قبل خارجَ سلسلتها "حلقات حرب لا تنتهي" أعمالاً روائية أشاد بها النقّاد، مثل: "الأهواء الصعبة" و"أطلس الجغرافيا الإنسانية"؛ ستجد نفسها إزاء ملحمة ستمنح لمسارها الكتابي معنىً مغايراً.
أعادت كتابتُها للإسباني المهزوم الحقَّ في تصوير مأساته
وقد وجدت دليلها في هذا المسار سنة 2007؛ لمّا نشرت روايتها المميّزة "القلب المتجمّد"؛ روايةٌ جعلتها في تواصُل عميق وتفاعُل متعاطف مع "حركة الذاكرة التاريخية" التي أخذت على عاتقها فضح جرائم الدكتاتورية، وإعادة الاعتبار لضحاياها. في هذه الرواية، التي استلهمت عنوانَها من مقطع شعري لأنطونيو ماشادو يقول فيه: "إحدى الإسبانيّتَين/ يجب أن تجمد قلبك"، تستعيد غرانديس سيرة خوليو كاريون، رجل الأعمال القوي، بعد موته، والذي راكم ثروة هائلة خلال سنوات الدكتاتورية، وترك لأبنائه إرثاً كبيراً، لكنّه أيضاً ترك العديد من النقاط المظلمة في ماضيه، عن علاقته بالحرب الأهلية وخاصّة الوحدة العسكرية الزرقاء.
خلال جنازة خوليو، يفاجأ ابنُه ألبارو، الوحيد الذي لم يرغب أن يكرّس نفسه لعالم المال والأعمال، بوجود امرأة شابّة وجذّابة، لم يرها أحد من العائلة من قبل، وهي تكشف عن أسرارٍ لا يعرفها أحد من حياة والده. راكيل فرنانديث بيريا، ابنة وحفيدة منفيِين إسبان في فرنسا، تعرف كلّ شيء تقريباً عن ماضي والديها وأجدادها، الذين سألَتهم عن تجربتهم في الحرب والمنفى. بالنسبة إليها، بقي شيء واحد فقط غير واضح: علاقة جدّها ببعض الغرباء، إذ رافقته ذات مساء، وكان عائداً للتوّ من المنفى إلى مدريد، زارهم فشعرَت بوجود علاقة غامضة معهم. ألبارو وراكيل محكوم عليهما بالالتقاء، لأنّ تاريخ عائلتيهما مترابط، ربما يتعلّق الأمر أيضاً بالعديد من العائلات في إسبانيا، منذ الحرب الأهلية وحتى المرحلة الراهنة، مروراً بما يُسمّى الفترة الانتقالية. وهذا يكشف كذلك عن جانب من صراع الأجيال الجديدة مع الذاكرة.
ونظراً لحساسيتها المرهفة تجاه حركة الذاكرة التاريخية، شرعت ألمودينا غرانديس عام 2010 في بلورة أحد أهمّ مشاريعها في السرد، وهي سلسلة بعنوان "حلقات حرب لا تنتهي"، وتضمّ سبعة أعمال روائية ترتبط بأسوأ مراحل تاريخ إسبانيا خلال القرن العشرين. قبل أن تُصدر العنوان الأول، "إينيس والفرح"، كانت ألمودينا تعرف ما ستقوله في الروايات الستّ المقبلة. لأنّها حين تكتب، تكون مثل من يقوم بتشييد بناء متماسك. إذ تترك حبكة كتابها الآتي مخطَّطة في أحدِ الدفاتر مع ملاحظاتها، كما صرّحت بذلك في إحدى محاضراتها بـ"مدرسة الكتّاب" بمدريد.
كانت غاية ألمودينا غرانديس من كتابة "حلقات حرب لا تنتهي" إنشاء لوحة جدارية تاريخية، على غرار ما فعله غالدوس في "حلقات وطنية" خلال القرن التاسع عشر، وهي حلقات من شأنها أن تسمح بتصوير جزئي، وبصورة مكبّرة، للأجواء التي عاشتها إسبانيا الممزّقة بسبب الحرب، والحكايات الحقيقية التي تفضح الكثير من التفاصيل الخفية.
وهكذا، اكتشف القرّاء منذ الحلقة الأُولى من السلسلة - التي تتكوّن من سبع حلقات (إغنيس والفرح، قارئ جول فيرن، الأعراس الثلاثة لمانوليتا، مرضى الدكتور غارسيا، أم فرانكشتاين، ماريانو في البيداسوا، إضافةً إلى عمل سابع أخير ينتظر القرّاء صدوره حسب دار النشر توسكيتس) - تلك المحاولة الجادّة في حكي ما جرى خلال الحرب الأهلية الإسبانية، لكن بطريقة مغايرة ومختلفة تُلاحق ما لا تراه العين المجرّدة وغير المتفحّصة.
محاولةٌ جادّة لملاحقة ماضٍ لم تره العين غير المتفحّصة
بعد قرابة سنةٍ على رحيل ألمودينا غرانديس، منحَتها "جامعة قادش" الدكتوراه الفخرية مؤخّراً، كما استطاعت قوى اليسار في بلدية مدريد أن تفرض على اليمين في "الحزب الشعبي" القبول، على مضض، إعلانها ابنةً مفضّلةً لمدريد، ثم إطلاق اسمها على أحد شوارع المدينة، رغم التصريحات المثيرة للجدل التي أطلقها عمدة مدريد اليميني، والذي قال إنّها لا تستحق هذا اللقب، لكنّ ردَّ الشاعرِ لويس غارسيا مونتيرو، زوج ألمودينا، لم يتأخر، فقد وصف تصريحات العمدة بأنها "بائسة وتفتقد لمعاني كرم النفس وعزّتها. كان يجب أن يُعامل أبناء مدريد بطريقة أكثر كرامة. إن كان يشعر بأنّه اقترف خيانة تجاه أصدقائه في اليمين المتطرّف، فليذهب إلى الجحيم... شكراً لمدريد ولبلدية مدريد على تسميتها لـ ألمودينا غرانديس ابنةً مفضّلة"...
في خضمّ ذلك، أدلى رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيث، بتصريحٍ، ذكّر فيه بجملة شهيرة قالتها ألمودينا: "مع مرور الزمن استوعبتُ أنّ الفرح كان سلاحاً أقوى من الحقد، وأنّ الابتسامات أكثر جدوى وأشرس من حركات الغضب والخذلان"، وأضاف: "لقد كان شرفاً عظيماً لنا أن نُعايشها في فضاءٍ للحرية والتآخي مثلما هو فضاء مدريد".
اليمينيون لا يجدون ذاتهم طبعاً في سرديات ألمودينا، لأنها كانت صوت من خسروا الحرب، لكن الحبّ وحده يمكن أن يضمّد الجراح: "ليس ثمّة حبٌّ دون إعجاب. وحين يُعجبنا كتابٌ ما... حين نشعر بشغف تجاه كتاب ما، فهو دائماً يحكي حياتنا الخاصّة"... ولعلّ كثيرين يشعرون أنّ ألمودينا غرانديس حكت حياتهم وشغفهم الخاصّ...
بطاقة
منذ روايتها الأُولى "أعمار لولو" (1989)، حقّقت ألمودينا غرانديز انتشاراً واسعاً؛ فقد بيع من العمل أكثر من مليون نسخة، واقتُبس إلى السينما، وفاز بجائزة أدبية، وتُرجم إلى قرابة عشرين لغة. من رواياتها الأُخرى: "سأتّصل بك يوم الجمعة" (1991)، و"مالينا هو اسم تانغو" (1994) و"أطلس الجغرافيا البشرية" (1998)، و"القلب المتجمّد" (2007)، و"أغنيس والفرح" (2010/ الغلاف)؛ أُولى روايات سلسلتها "حلقات من حرب لا تنتهي".
* شاعر ومترجم من المغرب