في عام 1831، سافر المؤرخ والسياسي الفرنسي ألكسي دو توكفيل (1805-1859)، إلى الولايات المتحدة، بغرض الاطلاع على أحوال السجون فيها، حيث دوّن ملاحظاته وتأمّلاته آنذاك حول عمل المؤسسات الأميركية، وكيف تأسس المجتمع الديمقراطي الليبرالي بفعل المساواة الاجتماعية، وجمعها في كتاب أصبح مرجعاً في التاريخ والسياسة.
"الديمقراطية في أميركا"، عنوان كتاب دو توكفيل الذي نقله إلى العربية الشاعر اللبناني بسام حجار (1955-2009)، ويصدر ضمن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في جزأين.
يشتمل الجزء الأول منهما على قسمين، يضم الأول ثمانية فصول، والثاني عشرة فصول (فالمجموع ثمانية عشر فصلًا)، أما الجزء الثاني فيشتمل على أربعة أقسام، يضم الأول منها واحدًا وعشرين فصلًا، والثاني عشرين فصلًا، والثالث ستة وعشرين فصلًا، والرابع ثمانية فصول (فالمجموع خمسة وسبعون فصلًا).
يصف الكتاب أميركا الأمّة التي خلّفت بالمقدار الأقلّ من الدماء ما لم تتمكّن أوروبا من أن تخلّفه بالثورات العنيفة، حيث رأى في العالم الجديد (أميركا) تجسيدًا للثورة الحقيقية الحتمية، التي تؤسّس من دون عنف لرفاه الإنسان وازدهار مجتمعاته.
يبيّن دو توكفيل تصوره للمجتمع الذي يطمح إليه، حيث الفرد فيه يرى أن القانونَ صنيعُه، يستحسن أحكامه ويرضخ له دونما مشقّة
يشير دو توكفيل إلى أن ما استرعى انتباهه في أميركا هو تساوي المراتب، وأنه اكتشف ما لهذا التساوي من تأثير مذهل في توازن المجتمع يتجاوز القوانين؛ ما جعله ينتقل بتفكيره إلى النصف المقابل من الأرض متمنّيًا له شيئًا مماثلًا. كما بدا للمؤلف أن مثيلة الديمقراطية الأميركية تتقدّم في أوروبا بوتيرة أسرع، على الرغم من اختلاف نظرة الناس إليها، بين من يحدوه أمل في صدّها ومن يراها الأكثر دوامًا وأمرًا لا يردّ، وأن هذا ما جعل فكرة الكتاب تختمر في رأسه.
وبالمقابل، يوضّح أن فرنسا كانت موزّعةً على أسَر قليلة تمتلك الأرض وتحكم قاطنيها بالميراث، أما بشرها فلم تكن بين أيديهم وسيلة للتعامل سوى القوة التي لم تكن سوى في مصدر واحد: الملكية العقارية. طبقة ثالثة لم تلبث أن نشأت وتوسعت هي سلطة الإكليروس التي فتحت أبوابها للجميع: الفقير والموسر، والعاميّ والسيّد. وتبدأ المساواة بالتسلّل إلى الحكومة عبر الكنيسة، إذ ينتزع رجل الدين لنفسه، بعدما عاش في عبودية، مكانةً في مجالس النبلاء، وبناء عليه فقد بات المجتمع بمرور الزمن أكثر تمدّنًا واستقرارًا، وطرأت لتنظيم الصلات الآخذة في التعقّد بين البشر ضرورةٌ لقوانين مدنية فظهرت طبقة المشترعين. ومع بذخ الملوك تفرغ الخزائن، فتتجه العامّة إلى طريق التجارة وتظهر طبقة التجار، ومعهم ظاهرة سطوة المال سبيلًا إلى النفوذ والتأثير في شؤون الدولة، ويصبح المتموّلون قوةً يُغدق عليها المديح. وتنتشر العلوم شيئًا فشيئًا فتظهر طبقة المتعلمين، ويغدو العقل وسيلة حكم، والذكاء قوة اجتماعية ويخوض المتعلّمون مجال الأعمال.
ويرى دو توكفيل أن التقدم الذي أحدثته الثورة الاجتماعية المذكورة في أوروبا كان الأسرع في فرنسا، غير أنه كان عشوائيًّا، وتُركت الديمقراطية لغرائزها الفطرية فتولت السلطة على نحوٍ مباغت ورضخ كل منا لنزواتها وعبدناها صورةً للقوّة. وحينما وهَنَت بعد حين، صاغَ المشترعون خطّةً حصيفة لتقويضها وإزاحتها عن سدّة الحكم عوضَ السعي وراء تهذيبها وتصويبها، وما ذلك إلا لأنهم امتلكوا الديمقراطية مجرّدةً مما يساهم في تلطيف رذائلها.
ويبيّن دو توكفيل تصوره للمجتمع الذي يطمح إليه، وهو مجتمع يرى الفرد فيه أن القانونَ صنيعُه، يستحسن أحكامه ويرضخ له دونما مشقّة، وإذ يمتلك حقوقًا ويطمئن إلى احتفاظه بها من دون منازع تنشأ ثقةٌ متينة بين الطبقات قاطبةً، وتسامح متبادل مجرّد من الغرور أو الوضاعة، عندئذ تحلّ المشاركة الطوعية للمواطنين محل النفوذ الفردي للنبلاء، وتغدو الدولة بمنأى عن الطغيان، وفي مجتمعها مقدار أقل من البؤس، والرخاء فيه أعمّ وأشمل من الكدر، والجهالة أندر من العلوم، والمشاعر أقل احتدامًا، والعادات ألطف، والجرائم أقل شيوعًا من الرذائل. ولأن كل إنسان مساوٍ للآخر بضعفه، سيشعر بحاجة مساوية إلى أمثاله، وأن مصلحته الخاصة مقترنة بمصالح العامة.
فالديمقراطية في رأي دو توكفيل تدمر الكيانات الفردية التي كانت، كلّ على حدة، تكافح الطغيان، لكن الحكومة ترث وحدها جميع الامتيازات وتصبح القوة القاهرة.
وبالنسبة إلى الأوساط الفكرية، يرى دو توكفيل أن الديمقراطية الفرنسية المتعثّرة أطاحت كل ما كان يعترضها، ولم تكفّ عن السير قُدُمًا، ومن هنا تنبع حال ارتباك يشهدها المجتمع الفرنسي مرغمًا، إذ يبدو أنه قطع الرابط الطبيعي الذي يقرن الآراء بالميول والأعمال بالقناعات. حتى الدين في رأيه بات منخرطًا في نصرة القوى التي تُسقطها الديمقراطية، ويتنكّر للمساواة ويضنّ بها، ويلعن الحرية كأنه خصم لها. وإلى جانب الدين أناس أبصارهم مشدودة إلى نصرة الحرية، ليس بوصفها مصدرًا لأنبل الفضائل بل لأجزى الخيرات أيضًا، ويرى أنهم يسارعون إلى الاستعانة بالدين لأجل هذه الخيرات.
يطرح دو توكفيل تساؤلاته الحائرة: "أين نقف؟ هل العصور كلها كانت شبيهةً بعصرنا؟ أغالبًا شهد الإنسانُ عالمًا لا ترابط فيه، وفضيلة مجرّدة من النباهة، ونباهة مجرّدة من الاعتزاز، وهوى للنظام مطابقًا لميل الطغاة، ونزوعًا سليمًا إلى الحرية مطابقًا لازدراء القوانين، وضميرًا لا ينير بل يظلّل أعمال البشر؟ هل خلق الخالق الإنسان كي يدعه متخبّطًا وسط البؤس الفكريّ؟".
ثم يجيب نفسه: "لا، لا يسعني أن أصدّق: فيقيني أن الله يدبّر للمجتمعات الأوروبية مستقبلًا أكثر ثباتًا واستقرارًا. ولن أكف عن الإيمان بتدابير مشيئته، وأُؤثر ألف مرّة الشك في علمي على الشك في عدالته. ويتراءى لي من دون أدنى شك أننا، عاجلًا أم آجلًا، سنبلغ المساواة شبه التامّة في المراتب على غرار الأميركيين، رغم أني بعيد عن الاعتقاد بأنهم اهتدوا إلى شكل الحكومة الوحيدة الذي قد توفّره الديمقراطية لنفسها.