ألف عام من الاهتمام العربي بالحضارة المصرية

26 ابريل 2021
مَسلّة تحتمس ومسلّة حتشبسوت اللتان تحملان نقوشاً هيروغليفية، في الكرنك بالأقصر (Getty)
+ الخط -

لم تكن اشتغالات أحمد كمال باشا (1851- 1923)، حول استعادة هوية لغةٍ بعد كفاح مرير، بلا صدى (راجع "العربي الجديد"، الإثنين، 19 نيسان/إبريل). إذ إن عدداً من الباحثين العرب سيواصل جهوده، مع أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، وعلى رأسهم المفكّر علي فهمي خشيم (1936- 2011) صاحب كتابي "آلهة مصر العربية" (1998) و"البرهان على عروبة اللغة المصرية" (2007). من جانب آخر، سيشهد أوّل عقد من عقود قرننا الحالي ظهور كشف جديد مفاجئ، يعيد للعرب والثقافة العربية حقّاً ظلّ مهملاً ومهضوماً طوال أكثر من ألف عام، وهو دورهم في فكّ رموز الكتابة الهيروغليفية وقراءة ما ظلّ مستغلقاً في نظر العلماء الغربيين (بفعل فقدان تلك الألفية من عمر الثقافة العربية، أو تجاهلها بالأحرى) إلى أن جاء الفرنسي شامبليون وفكّ رموز هذه الكتابة عام 1822، اعتماداً على نقوش حجر رشيد المكتوبة بثلاث لغات، المصرية القديمة والديموطيقية واليونانية، والمكتشف في مبنى بالقرب من مدينة رشيد.

صاحب هذا الكشف هو الباحث والأكاديمي عكاشة الدالي، في كتابه الصادر بالإنكليزية تحت عنوان "علم المصريات: الألفية المفقودة، مصر القديمة في الكتابات العربية في القرون الوسطى" (2005). وهو عالِمٌ يعترف في محاضرة له ــ ألقاها إثر صدور كتابه ــ بأنه خلال دراسته للفرع العلمي المسمّى "المصريات"، "لم يكن واعياً بوجود حجمٍ من المواد ثمينٍ بهذا القدر من المصادر العربية ذات الصلة بمصر القديمة"، على رغم وعيه ببعض من هذه المصادر. ومن هنا اتّجه نحو جمع أكبر قدر ممكن من هذه المصادر العربية، وبعضها لم يُنشَر قبل كتابه قط.

وقدّرَ الدالي أن حجم هذه المصادر يصل إلى بضع مئات آلاف المجلّدات، الأمر الذي يُحيج التوسُّعَ في البحث إلى مزيد من الوقت والكثير من الباحثين. وقال إن الموضوعات التي يظنّ أنها ستحظى باهتمام الأكاديميين والجمهور العام تتضمّن دور كليوباترا العلمي والبحثي، وفكّ العرب لرموز الهيروغليفية، وكيف تمّ أهمال جهود علماء المصريات العرب. وأشار إلى أنّ السبب الذي دفع العلماء العرب في العصور الوسطى إلى بحث أعمال كليوباترا والكتابة عنها يقع في الإطار الأوسع الذي دفعهم إلى الاهتمام بالنقوش المصرية، والنظر إلى مصر القديمة بوصفها أرض الكنوز والحكمة، بالمعنيين، المادي والمعنوي.

نظر كتّاب عرب مبكّراً إلى النقوش الهيروغليفية كأبجدية

وقاد هذا إلى نشوء اهتمام واسع بالنقوش المصرية، نظرَ فيه كتّابٌ عرب ــ من أمثال ذي النون المصري وابن وحشية (صاحب كتاب "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام")، بين كثيرين ــ إلى الرسوم الهيروغليفية نظرتهم إلى حروف أبجدية. بالإضافة إلى أنّه تسنّى لهم (نتيجةً لتناقل المعارف والنصوص ثنائيةِ اللغة، سعياً وراء الحكمة) معرفة المعاني الكامنة وراء بعض المقاطع الهيروغليفية. كما أنّ البحث يُظهر كيف أن هذه الهيروغليفيات لم تكن تُفسَّر كرموز فقط، بل كأصواتٍ لغوية أيضاً، وهو ما دفع بعض المؤرخين إلى القول بأن علماء مثل شامبليون استلهموا مثل هذه الكتابات العربية.

وزاد عكاشة الدالي من ثراء بحثه بالكشف عن أن عرب القرون الوسطى، في تلك الألفية المفقودة، نقلوا المعرفة في مصر القديمة بوساطة تسجيل الشهادات الشفاهية أيضاً، وهي شهادات تضمّنت القصص الديموطيقية المصرية المفقودة، وكذلك باستنساخ النقوش، كما هو واضح من صفحات مخطوطة كتاب "الأقلام" الموجودة في المتحف البريطاني، والتي استنسخ فيها أبو القاسم العراقي نقوش مسلّة الملك آمنمحات الثاني. 

كما ألقى ضوءاً على الكيفية التي يمكن أن يكون العلماء العرب قد جمعوا بها معلومات حول التّقانة القديمة التي وثّقوها خلال تلك الألفية. وفي كل هذا، اختار الدالي، بشكل رئيسي، مراجعه من بين كتّاب يَفترض أنهم متخصّصون في ميدان أبحاثهم، ويُظهرون اهتماماً عميقاً بمصر القديمة، واستخدم بعضاً من سرديات ملاحم وقصص من النوع الذي يكشف عن إدراكٍ لماضي مصر. كما ركّز على الكتّاب المسلمين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم القومية، لأن العربية، مع انتشار الإسلام، أصبحت لعدة قرون وسيلةَ تفاهم معرفي وعلمي بين شعوب مختلفة اللغات، يستخدمها مسلمون وغير مسلمين، العرب وغير العرب على حد سواء.

تضمنت هذه المصادر، التي استرجع بها الباحث الألفية العربية المفقودة، مقالاتِ الرحالة والجغرافيين، وكتاباتٍ تاريخية وسيراً ذاتية، وكتباً في فك ألغاز النقوش القديمة، ومقالاتِ ويوميات الباحثين عن الكنوز، وكتباً في الكيمياء. وفي ضوء هذه المصادر يتوصّل الدالي إلى نتائج مفادها أن قراءة المصادر العربية توضح أن دراسة الثقافات القديمة كانت ذات قيمة كبرى بالنسبة إلى المعرفة والهدى، انطلاقاً من الإيمان بأن التاريخ الإنساني كلّه كان تاريخاً واحداً، على الرغم من اختلاف الشعوب واختلاف أماكن إقامتها ومعيشتها؛ تاريخا يشترك من حيث الجوهر في أصل واحد ومصير واحد؛ وأن الدراسة العربية في القرون الوسطى للثقافة المصرية جزءٌ من هذا النهج الكوني التاريخي وليس محاولة ضيقة الأفق لإثبات مصداقية هذه العقيدة أو تلك.

تعود بعض المصادر العربية حول مصر القديمة لما قبل الإسلام

وفي النتيجة، يتوصّل الباحث إلى أنّ الصِّلات الوثيقة، قبل ظهور الإسلام بين العرب وبين المصريين القدماء، هي التي وفّرت إحساساً بالهوية والتواصل بين القادمين الجدد تحت راية الإسلام وهذه الثقافة القديمة بدءاً من القرن السابع الميلادي. ولهذا، التفت الكتّاب العرب إلى مصادر غنية ومتنوّعة، معاصرة للإسلام وسابقة عليه على حد سواء. وكانت النقوش الهيروغليفية، التي أثارت اهتمام كثير منهم، مفاتيح معرفة وحكمة عميقتين. 

وساعدت حقيقة أن المصرية المنطوقة كانت ما تزال حية في مرحلتها القبطية، بالتلازم مع معرفة لغات ونقوش أخرى، على إمكانية الوصول إلى  فهم سليم لطبيعة اللغة المصرية القديمة. وأيّاً كانت بواعث اهتمام عرب القرون الوسطى بالنقوش المصرية، فقد نجحوا بلا شكّ في إدراك صِلة المصريّة القديمة بالقبطية، وأن العلامات المصرية تمتلك قيَماً صوتية، وأنّ بعضها كان متجمّعاً بوصفه أبجدية. يُضاف إلى هذا أنّ قلّةً من الكتّاب استطاعت التمييز بين العلامات المستخدمة أبجدياً والعلامات المستخدمة كصور معينة. 

ولا يشكّ عكاشة الدالي في أن ممّا ساعد على فكّ رموز الهيروغليفية هو النظرة التي ترى أن المصرية القديمة واللغة العربية تمتلكان الكثير من السمات المشتركة التي تشير إلى أصل مشترك واحد، أي أنه يؤكّد من جانبه ــ في ضوء حجم المصادر العربية التي توفرت بين يديه، وبعضها موزع في متاحف العواصم الغربية ــ على ما كشفت عنه جهود رائد استعادة الهوية اللغوية للحضارة المصرية، أحمد كمال باشا، قبل قرن تقريباً.


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

المساهمون