ألبرتو غراندو.. وجه آخر للثائر تشي غيفارا

24 أكتوبر 2020
راوول كاسترو وتشي غيفارا أثناء الحرب الكوبية، 1958 (ويكيبيديا)
+ الخط -

حلت منذ أيام الذكرى الـ 53 لاغتيال الثائر أرنستو تشي غيفارا (14 يونيو 1928 - 9 أكتوبر 1967) في غابات بوليفيا، الرجل الذي حلم بتغيير العالم مع الناس، قبل أن يقع أيضا، في الأخير، في مصيدة جماهير الفلاحين الذين دافع عنهم. لم تكن حياة الثائر الأممي سهلة، لكن شخصيته القوية، وقدرته الفائقة على التنظيم، دفعتاه إلى الإيمان أكثر بالعمل الجماهيري، وهو الأمر الذي خلق نوعا من التمايز بين شخصيته وشخصية رفيقه في النضال، فيديل كاسترو.

لقد اعتبر غيفارا أن المهمة لم تنته بعد في بلدان أميركا اللاتينية، مترامية الأطراف، والتي يخيم على أهلها الفقر والعوز والأمراض والاستعباد من طبقة الملاك الإقطاعيين. كانت فضيلته الكبرى أن ينصت إلى الناس، وأن يلتصق بتفاصيل اليومي، ومن ذلك اليومي يستلهم الحلول وخطط المقاومة الشعبية، القادرة على تفتيت كل الصعوبات الأخرى.

ولعلنا نقف على طبيعة شخصية تشي غيفارا، وأيضا على تعقيداتها وهواجسها في كتاب الرحلة الذي أنجزه الطبيب ألبرتو غراندو، رفيق غيفارا، في فترة سابقة على التزامه الثوري، عندما كان في العشرينيات من العمر. لقد كان مهجوسا بمعرفة واقع بلاده تشيلي، والبلدان المجاورة لها. كان التنقل متيسرا في تلك الفترة من بداية الخمسينيات من القرن الماضي، الحافلة بالأحداث في أميركا اللاتينية، وكان متوقعا أن الحراك الشعبي لن يتوقف إلا بحركات اجتماعية كبرى ستقلب وجه المنطقة تماما، وهذا ما سيحدث..

لم يكن آنذاك قد أصبح ثوريا، لكن تلك الرحلة، التي سيدون ملاحظات بشأنها في مذكراته، ستوقد الشرارة في ذهنه، وستصبح آراؤه أكثر راديكالية منذ 1954، وفي سنة 1955 سيتغير مصيره تماما، بعد لقائه فيديل كاسترو، لتبدأ حياة جديدة من حياة القائد والرمز والأسطورة. بدأت رحلة إرنستو تشي غيفارا والطبيب ألبرتو غراندو من بوينس آيرس سنة 1952، وسيصلان إلى تشيلي في 14 فبراير/شباط من السنة نفسها ثم يتوجهان إلى بيرو في 24 مارس/آذار، ومنها إلى كولومبيا في 23 يونيو/حزيران، ثم فنزويلا في 14 يوليو/ تموز، وفي أغسطس/آب سيعود إرنستو إلى بوينس آيرس، بينما سيبقى غراندو.

هنا مقتطفات من هذه الرحلة. ماتشو بيتشو 5 نيسان 1952، نحن في المحطة ننتظر القطار الذي سينقلنا عائدين إلى (كوزكو) وإلى القرن العشرين. ما زلت مستحوذا بما شاهدت، ومدركا قلة ما نعرفه عن أميركتنا الأصلية، وأي نبوية تكشفت في كلمات (فيوزر) حينما قال لي عندما كنا في (رابلان): وجه وقفا يا صديقي، كل شيء وجه وقفا. سوف أمر الآن على أحداث بضعة الأيام الأخيرة.

انطلقنا صوب (ماتشو بيتشو) يوم الثالث من الشهر. كانت المنطقة شديدة الانحدار وكان على سكة القطار أن ترتقي صعودا وبشكل متعرج فوق سكة معلقة. في جزء من الطريق كانت القاطرة تسحب العربات، وفي آخر كانت العربات تدفع القاطرة. كان الخط يجري على طول الـ(بوماتاليه) وهو أحد روافد نهر (فيلكانوتا). كلما ارتفعت أكثر، تحولت الخضرة إلى مدارية وأكثر خصوبة. جوانب الهضبة يكسوها زهر الوزال، وسفح الجبل أشجار الكابيولا والشجر المثمر.

مررنا بعدة قرى مثل (بوكويرا) و(أيراكوتشاكا) و(هيواكوندو) وسواها. وفي كل قرية كانت النسوة الهنديات يهاجمننا بأطباق الطعام على اختلافها. كانت هناك أكواز الذرة، وأجبان الماعز برائحتها الشهية والمنيهوت المغطى بالصلصات الساخنة، والتي كانت مثيرة لنا. سرعان ما يصب الـ(بوماتاليه) في الـ(فيلكانوتا)، وتصبح كل الجبال المحيطة أكثر ارتفاعا وأعظم انحدارا. تظهر أشجار السفرجل مع الكثير من نباتات السرخس وكذلك عشبة البيجونيا الاستوائية الأكثر جمالا. (أمي كانت ستملأ المتنقل بحشائش كهذه في مثل هذا الوقت).

يتحول النهر بهمة إلى سيل جارف، ويدخل سلسلة منحدرات وبأمواج ترتفع حتى عدة ياردات مسببة ذلك الصوت الهائل الذي يطلق عليه الهنود اسم (الهدير الجبار). خرجنا على الرصيف في (ماتشو بيتشو) واتجهنا إلى الآثار نحو خمسة أميال في الطريق صعودا. اتبعنا خط سير قديما للبغال أكثر انحدارا، ولكنه أقصر طولا من الطريق. وصلنا إلى فندق قرب الآثار كان خاليا، وهو فأل خير لنا كان المسؤول هناك يلعب كرة القدم مع مجموعة من الموظفين، وأهل الجوار فوق أرض شبه ممهدة يسمونها (السهل) هنا.


يساريون في الطريق

سألنا إن كان بمقدورنا اللعب، فوافقوا على انضمامنا إليهم، وكانوا مندهشين قليلا لمجيئنا. عندما انتهت اللعبة عرفناهم بأنفسنا. كان المسؤول كاتبا. ربما من أولئك اليساريين الذين اضطروا للهرب تجنبا للاضطهاد تحت حكم (أودريا). وعلى الفور عرف قدرنا، ونظرا لأنه لم ينقصنا الذكاء والمعرفة كما كان حال ثيابنا، فقد قدم لنا المنامة والمأكل. خرجنا لنلقي نظرة حول الآثار.

كان المشهد وحده يستأهل الرحلة. أما الأبنية فكانت من الغرانيت الأبيض وتنتصب على رعن جبلي بارتفاع نحو ألفي قدم فوق النهر الذي يجري خلال ممر ضيق على مجنبتيه هضاب مرتفعة، بعض منها قد دفنها الثلج. كان وقت الغسق وكانت مجموعة من الغيوم المنخفضة تدأب في حركتها لإخفاء القمم، كما لو أنها كانت تكفنها بشاش رمادي اللون.

بضعة عروق مائية تنقلب برشاقة نحو شلالات استكملت رسم هذا المشهد الرائع. ولكن إذا ما كانت الطبيعة تقدم مشهدا رائعا هنا، فإن صنع الإنسان لم يكن بأية حال ليتخلف عنها. ففي ظل (هواينا بيتشو) يختبئ أحد أعظم أعمال الحضارات الفطرية في أميركا الجنوبية. قمة (ماتشو بيتشو)، التي وهبت اسمها للمدينة (ويعتقد بأنها فيلكابامبا القديمة)، محاطة من ثلاث جهات بنهر (فيلكانوتا)، والسبيل الوحيدة إلى هناك هي طريق غير معبدة تدنو من جهة الجنوب.

سوف أصف القلعة ابتداء من هناك، حيث تصل أولا إلى مخفر أو برج مراقبة بني بقطع من صخر الغرانيت الأبيض. وهذا المخفر يستطيع احتواء عشرة إلى اثني عشر رجلا. من هناك تنزل إلى المنطقة المحتوية على البقعة الملكية. معبد الشمس على الوادي الشرقي، ويرتفع فوق كهف منقسم في الصخر، والذي لا بد أنه الضريح الملكي. وباستخدام نوع الصخر ذاته، بنوا هذا المعبد كأنه قطعة واحدة بقطع الغرانيت التي تتلاءم مع بعضها بشكل كامل ودون أي أثر لانفصال بينها. وكلما ارتفعت الجدران إلى أعلى، صغرت قطع الصخر مكسبة المعبد مظهرا من القوة ولمسة من الجمال الشفاف المذهل. شكله نصف دائري، ما أعطاه اسم (البُريج) لدى الزوار. يحتوي على عدة نوافذ، إحداها لها قطعتان منزلقتان في الأسفل بأقنية أسطوانية بقطر بوصتين تنزلق خلالها، حيث يتوضع القرص الذهبي الذي يمثل الشمس. نزلنا من هناك مع حلول الليل ودعانا مسؤول الفندق إلى العشاء.


صوت ملحّ

قبل أن أخلد إلى النوم، كنت أقرأ كتابا أعطاني إياه المرشد، إنه مجموعة من الرسائل كتبها (بوليفار)، ولعمق مضمونها ودقة موضوعها فقد ألهبت مخيلتي. فكرت في نفسي بأني كنت محقا حينما اتبعت الصوت الملح الذي سرى في داخلي، ودعاني أن أجوب أنحاء أميركا، إلى أن أجد شيئا جديدا يمكنني عنده أن أطور قدراتي العقلية والعلمية والجسدية. يوم الرابع استيقظنا عند الفجر وبدأنا النزول من (هواينا بيتشو)؛ أو القمة الفتية، كمقابل لـ(ماتشو بيتشو) أو القمة الهرمة. ترتفع القمة الفتية إلى نحو ألف ومائتي قدم عن قلعة (فيلكابامبا) الطريق شديدة الانحدار، لكنها سهلة المسلك. وصلنا إلى آثار الحصن الصغير، وأخذنا بضع صور وتركنا قصاصة ورق عليها توقيعنا داخل زجاجة، بحيث يمكننا البحث عنها حينما نعود إذا قدر لنا ذلك.


حوار حاد

يكشف ألبرتو غراندو حدة الطبع لدى تشي غيفارا، وبدون مقدمات أحيانا، فمحاورة بسيطة كانت تدفعه إلى حسم الأمر، وهذا ربما من التفاصيل الغائبة، التي لا يمكن اكتشافها في حياة الشخص إلا بالملازمة الدائمة، وخصوصا في رحلات السفر الطويل، حيث تختبر معادن الرجال، يكتب "عثرنا على حقل فراولة في الطريق نزولا وأقمنا لأنفسنا احتفالا. بعد ظهر ذلك اليوم ذهبنا إلى غرفة القرابين، وهي داخل البريج.

أخرجنا الإبريق والمتة، وقمت بإشعال النار ووضعت الإبريق فوقها كي يسخن وتمددت على صخرة القربان. تحولت أفكاري إلى رسائل (بوليفار) فقرأت آخر واحدة فيها. جلس (فيوزر) على صخرة مجاورة وقام بتخمير المتة بينما يقرأ كتابا لـ(بينجهام) المكتشف الجديد ل(ماتشو بيتشو). صحوت من حلم يقظتي وقلت لـ إرنستو: أتعرف ماذا أنوي أن أفعل؟ سأتزوج ماريا ماجدولينا. بما أنها سليلة (مانكو كاباك الثاني) فسأكون كاباك الثالث. سأشكل حزبا مؤيدا للهنود، وسآخذ كل هؤلاء إلى الساحل كي يصوتوا، وستكون هذه بداية الـ(توباك آمارو ريفوليوشن)؛ أو (ثورة الهنود الأميركيين). نظر إرنستو إلي بجدية لا مبرر لها أمام جيشاني الفكاهي، ومرة أخرى فاجأني بأحد أجوبته اللاذعة قائلا: (ثورة دون أن تطلق طلقة؟! أنت مجنون يا صديقي).


لا تنتصر ثورة بدون سلاح

هل يمكن أن تتحقق ثورة بدون سلاح؟ في جواب عن هذا السؤال، يطلق إرنستو تشي غيفارا موقفا حاسما، ربما يناقض المواقف السلمية التي آمن بها في بداية الشوط من حياته كثائر. لقد علمته رحلته الطويلة تلك في بلدان أميركا اللاتينية، أنه لا بد من الاستعانة بالسلاح لترجمة الثورة إلى واقع. وهو انتقال مهم في وعي غيفارا، سيكون له بلا شك ما بعده على حياته كثائر، وأيضا على مستقبل الحركات التحررية التي قادها أو تلك ارتبطت به.

يكتب غراندو مشيرا إلى هذا التحول في وعي غيفارا "كل ما سبق كتبته وأنا أجلس فوق حقيبة السفر. رحلة العودة أبطأ بكثير من رحلة القدوم، فالقطار يمضي وقتا طويلا في توقفه مما في حركته. الناس تركب وتنزل لأخذ الزهور من أجل الاستعاضة يوم الاثنين. غادرنا روعة حضارة الـ(إنكا) منذ تسع ساعات، وما زال الأمل غائبا في الوصول إلى (كوزكو). لقد أمضيت الوقت أفكر في الجمال الذي رأيته، وفي كل ما تعلمته، وما يتعين علي أن أتعلمه.

أتأمل في فقر أولئك الناس، نصف المختفين وراء البخار المتصاعد من قدور طهي الحساء بأنهم يناضلون لكسب بضع قطع نقدية لأجل أطفالهم، وكذلك في ما قاله (بيلاو)، إذ لم أنس كلماته التي لم تزل تطن في رأسي: (ثورة دون أن تطلق طلقة؟! أنت مجنون يا صديقي). عندما تفسر مغزاها، تراها مشابهة تماما لجواب أعطاه منذ عشرة أعوام تقريبا، عندما طلبنا من طلاب الثانوية العامة أن ينظموا تظاهرة احتجاج يطالبون فيها بإطلاق سراح المئات من طلبة الجامعة الذين اعتقلوا.. حدث هذا في كانون الأول من عام 1943.

كنت مشتركا في إضراب طلاب جامعة قرطبة، عندما تم الاستيلاء على الجامعة بأوامر من الحكومة الفعلية للجنرال (فاريل)، وكنت قد اعتقلت مع كافة أعضاء اتحاد الطلاب. أثناء فترة اعتقالي، كان أخوتي يحضرون لي الطعام، وكنا نجمعه مع المؤن التي كانت تصل إلى الآخرين من أقربائهم ولجنة الإضرابات، كي نعوض به عن القمامة التي كان يجود بها علينا مركز الشرطة، حيث احتجزنا دون محاكمة. وحدث أن جاء إرنستو مرة مع أخي في إحدى الزيارات.

وأثناء توزيع الطعام كنا نمنح مهلة عشر دقائق للزيارة. استغليت الفرصة لتوضيح الفكرة التي كنا قد أعطيناها لعدد من الزوار أصلا- لتنظيم طلبة الثانوية للمطالبة بإطلاق سراحنا، أو على الأقل كي نسلم إلى المحاكم. فحتى ذلك الحين كنا في حكم المختطفين ولم تدرج أسماؤنا من بين المعتقلين. عندما انتهيت من التماسي، قال أخي (توماس) إنه يرى في ذلك فكرة جيدة، لكن (بيلاو) خرج بإحدى إجاباته اللاذعة قائلا: (اخرجوا وتظاهروا دون سلاح وسيشبعوكم ضربا. لا وبكل تأكيد! أنا لن أخرج دون سلاح). عشرة أعوام بعدها والمشهد لم يختلف- لا تنتصر الثورة إلا بقوة السلاح. فترتان مختلفتان، إنما موقف واحد من الحياة".

المساهمون