عند الحديث عن التاريخ العربي الإسلامي، لا تَظهر أمامنا المصادر الإسلامية فحسب؛ بل هناك رواية أسهم المؤرّخون المسيحيّون، الذين عاشوا في كنَف الدول الإسلامية وبين مجتمعاتها، في صناعتها. ولعلّ أهمّية الاطّلاع على هذه المرجعيات تكمن في كونها تنقل صورةً عن العلاقات الاجتماعية والعادات والطقوس للأوساط في الأزمنة التي كُتبت فيها.
من بين هذه المؤلَّفات، يبرز مصنَّفٌ فريد "كتاب العنوان: المُكلَّل بفضائل الحكمة المتوَّج بأنواع الفلسفة، الممدوح بحقائق المعرفة"، الذي وضعه المؤرِّخ أغابيوس بن قسطنطين المنبجي (ت: 330هـ/ 942م)، وصدر حديثاً بتحقيق الباحث محمد عبد الخالق عبد المولى، ضمن سلسلة "التراث الحضري" في "الهيئة العامّة المصرية للكتاب".
ينطلق المنبجي في مؤلَّفه من الروايات التاريخية والكنَسية بوجه عامّ؛ وحيث تبرز قيمة ما يُقدّمه وأهمّيته الخاصة في سرْد أخبار الكنيسة ومجتمعها، وشرْح مواقفهما في مختلف العصور والمناسبات؛ فإنّه، أيضاً، يُلقي الضوء على كثير من نواحي الصلات بين الشرق والغرب، وبين المسيحية والإسلام، وهو ما يجعل تصنيفه جديراً بالدرس والمراجعة.
ويبدو الكاتب مؤرّخاً لا غبار عليه؛ إذ يفيض في شرح الحوادث والشؤون العامّة، وكثير من الأخبار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي نواحٍ لها قيمتها وأهميتها في التاريخَين الإسلامي والمسيحي على حدّ سواء.
عاصَر المسعودي والطبري وقدّم تأريخاً عن الملوك والأمم
حاز هذا المصنَّف ثقة عدد من المؤرّخين الذين اعتمدوه ضمن مصادرهم التاريخية. ومن بين هؤلاء المسعودي (ت: 346هـ/ 957م) الذي يقول في كتابه "التنبيه والإشراف": "وأحسن كتاب رأيته للملكية (يقصد أتباع المذهب الملكاني الذين ينتمي إليهم أغابيوس) في تاريخ الملوك والأنبياء والأمم والبلدان وغير ذلك، كتاب محبوب بن قسطنطين المنبجي، وكتاب سعيد بن بطريق المعروف بابن الفرّاش المصري". كما كان الكتاب ضمن المصادر التي اعتمدها بعض المؤرّخين المتأخّرين؛ مثل: ابن شدّاد الحلبي (ت: 684هـ/ 1285م) في كتابه "الأعلاق الخطيرة في ذِكر أمراء الشام والجزيرة"، وابن العميد (ت: 692هـ/ 1292م) في كتابه المعروف بـ"تاريخ ابن العميد".
ويُشير مُحقّق الكتاب، في مقدّمته، إلى أنّ المصادر التاريخية المسيحية، وإنْ كانت تخصُّ أخبار الكنيسة والمجتمع المسيحي بأعظم قِسط من عنايتها، فإنها تُعَدّ دائماً مصادر عظيمة القيمة لتواريخ العصور التي عُنيت بها. وتمتاز هذه المصادر عموماً بعنايتها بتاريخ الدولة البيزنطية، حيث تفيض في تتبُّع أخبارها وعلائقها بالأمم الإسلامية إفاضة دقيقة ممتعة، وهذه ناحية لم تخصّها الرواية الإسلامية دائماً بما يجب من عناية، بل تعتمد غالباً في تناولها على هذه الروايات المسيحية. ويُرجِع سبب ذلك إلى أنّ أغلب الكتّاب المسيحيّين كانوا يَعرفون السريانية واليونانية واللاتينية أحياناً؛ ومن ثَمّ كان اتصالهم بالمراجع الأجنبية وثيقاً وانتفاعُهم بها واضحاً.
ويرِدُ ذِكر أغابيوس في المصادر العربية الإسلامية باسم محبوب بن قسطنطين الرومي؛ لأنّ أغابيوس (Agapius) تسمية يونانية بمعنى محبوب؛ وهو من مؤرّخي المسيحية الشاميّين الذين كتبوا باللغة العربية، وينحدر من أصول يونانية. ورغم أنّه يكاد لا يُعرف شيءٌ عن تاريخ ميلاده، ولا العلوم التي تلقّاها، إلّا أنّه من المعروف أنّه كان مُعاصراً لبطريرك الإسكندرية سعيد بن بطريق (ت: 328هـ/ 940م)، ولبعضٍ من كبار مؤرّخي التاريخ الإسلامي كاليعقوبي (ت: 292هـ/ 904م)، والطبري (ت: 310هـ/ 922م)، والمسعودي (ت: 346هـ/ 957م).