أصوات الصمت (1): أحتاجهم الآن لأبدأ حكايتي

05 فبراير 2023
عمل للفنان الكويتي - الفلسطيني طارق الغصين (1962 - 2022)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


"أيها الغريب
قالت آندروماكي وهي تطحن الملحَ على جانب الطريق
إذا أخبرتني من أيّ وطن أنتَ 
سأقول لكَ كم أنتَ حزين".

أُغنية طروادية


1

لم يعدِ الأصدقاءُ يعيشون في حجراتِ البيت الخشبيّة المطلّة على البحر، ولكنني أسمعُ أصواتهم في أحلامي حين يستلقون على أسرّتهم أو يغادرون، أو يتجمعّون في آخر الصيفِ عائدين من برلين أو بيروت أو دمشق أو قبرص؛ عاطفُ يرتدي دشداشة سوداء ويقول لزوجته إنه ذاهب إلى بقالة قريبة ليشتري تبغاً، وبعد يوم أويومين يُهاتفها من مدريد، وعلي الطشّ يُصادف أحمد النمّول يتلصص حاملا بندقيته في زقاق من أزقة الشياح في بيروت فيفاجئه هاتفاً، ماذا تفعل هنا؟

وينمو ذلك المتوحّد من الكرمل مثل شجرةٍ في تجويفٍ اتخذه مأوى ولا يتكلّم إلّا نادراً، ويتكئ أبو عواد في سريرهِ مصغياً إلى أصواتِ رحلته الأخيرة تنبعثُ من شريطِ تسجيل، ويردّد الميتُ بصره بين المتجادلين ولا يفهم ماذا يقولون. وخلال كل هذا تواصل عصافيرُ السدرةِ الوحيدة زقزقاتها في باحةِ البيتِ وفي كل الحجراتِ، ويصل صوتها إلى البيوتِ المجاورة، ويخرج الكثيرون من هذه الحكاية، ويتلاشى كلّ أثرٍ يقود إليهم أو منهم.

إذا نظرتَ من الطابق الثالث يمتدُّ صفٌ طويل من أشجار النخيل الهندي

أنا بحاجة إليهم الآن لكي أبدأ حكايتي، وهم بحاجة إلي، ربما ليعودوا إلى الحياةِ مرة أُخرى، ربما لألتقطهم واحداً واحداً، أحياء أو موتى، سواء بسواء، وألتقط أصوات العصافيرالتي لا تهرم في الحكايات، مثلما لا يهرم الناس، لا يبتعدون، لايخرجون، لايموتون، ما إن نلمحهم من شرفة أو على شاطئ البحر أو نمرّ بهم في مقهى.

"الكلّ حاضرٌ كأنما في سفينةٍ تتجوّل إلى الأبد ولكنها لاتتوقّف في أي ميناء".  

كان هذا هو ما كتبه مجهولٌ والتقطه عاطفُ وكتبهُ على ورقةٍ بيضاء بخطٍّ أحمر حاول أن يجعله أنيقاً، وعلّقها على الجدار وراء سريرهِ، فظلّت شاهدةً على غيابهِ. أما صاحب التجويف فتمنّى أن يأتي يومٌ ينسج الناسُ فيه حياتهم كما تُنسج الحكاياتُ، بمجرّد الذكرى، والذكرى وحدها، بلا ألمٍ ولا حسرةٍ، ولا دموعَ غير دموع البهجة، ولا شجنَ سوى شجن أنهم كانوا معاً، وأضاف أحمدُ في وقتٍ متأخّر قبل أن يغرق في مستنقعِ غابةٍ على حدود تنزانيا:

"ستروي حتى الأمكنة حكاياتها هاربة من الموتِ، كما ستفعل أنتَ يا صديقنا الرسّام، وتفعل الوعولُ فوق المرتفعات، وعصافيرُ الدوري التي ترافقنا أينما ذهبنا". 


2

ها هي الشقة التي لجأتُ إليها أخيراً في البناية المطلّة على حديقة البلدية مباشرة، وأمامي إذا نظرتَ من الطابق الثالث يمتدُّ صفٌ طويل من أشجار النخيل الهندي؛ جذوع طويلة ملساء رفيعة، وتيجان من ورق يشبه المراوح الخضراء المدبّبة الأطراف تتدلّى تحتها عناقيد بذور سمراء غامضة. حتى الآن لا أعرف بماذا تُفيدنا هذه المراوح والعناقيد، ربما كان لها شأن في بلادها الأصلية على شواطئ الجزرالنائية شرقاً، أما هنا فتبدو ماثلةً بلا معنى، اللهم إلا معنى الامتداد عالياً على رصيف شارع تجففه الشمسُ ولا يعرف المطر إلا نادراً.
 
هذا الصف الطويل الآن سامق يتجاوز طولي بأميال كما يخيل إليّ، يذكّرني بأفياء مررتُ بها في طفولتي وأمكنة أجهلها، ولكنه لم يكن آنذاك سوى شجيرات أمرّ بجانبها وأنا في طريقي إلى حيث لا أذكر أين كان ينتهي الطريق، إلى المجلة أم إلى السوق أم إلى مقهى على سطح مبنى ينتظرني فيه صديق يصطاد رزقه بالنباطة، ويُحنقه أن الطيور تطير مسرعة فقط إلى من يحملون الشباك. 

لم تكن الشجيراتُ آنذاك تتجاوز خاصرتي طولا، ولهذا كثيراً ما مررتُ على رؤوسها المروحيّة المنحنية براحةِ يدي، هكذا لمجرد لمسها غير واع أنه سيجيء يوم أسيرُ فيه تحت هذا النخيل ذاته هرماً ضئيلاً أتذكّر شظايا من ذلك الماضي، أحاول تجميعها ورصها بحنانٍ لم أكن أمتلكه في تلك الأيام. 

يقول ناسك أصبح يجلس الآن في مكتبتي محشوراً بين مئات الكتب بعد كل هذه السنين: 

"الأمر المهم أن يدخل الإنسانُ في قلبِ الحجرِ، أن يرى العالم بعيونهِ". 

وأقول:

"ولكن ليس في قلبِ شجرةٍ، شجرةِ تمرٍهنديّ طويلة نائية يصعب الوصول إليها. كيف أدخل فيها، هي العالية والنحيلة؟ كم هو بعيد العالي والناحل! لو كانت ممتلئة ويمكن لمس أغصانها المروحيّة ربّما كان باستطاعتي الدخول، أي العودة ثلاثين عاماً إلى الوراء. كلما مرّ بنا الزمن عابراً إلى الماضي دائماً، وكلما خفت صوتُ ضجيجه في أسماعنا، احسسنا بالخواءِ أكثر فأكثر، نحن نتجوّف ونمتدّ مثل الظلالِ، نتحوّل إلى قصبٍ لن يصلح إلا لتصفر فيه الريح".

فيتمتم الناسكُ متحسّراً:

"مؤسفٌ أن الإنسان ينضج ويتحوّل إلى ثمرةٍ ريّانة، ثم لا تكون صالحة إلا للسقوطِ في العتمة".


3
 
هذه الشقة لا تكتمل فيها الحياة، أو هكذا هي الآن. هي مكان للذكرى. للكتب الباقية. للصور. لشريط تسجيل. أي هي المسرح الخيالي الذي سيعود فيه كلّ ما كان إلى الحياة مرّة ثانية ويتخذ شكل حكاية أو مسرحية حين يتوافد الأصدقاء قادمين من غيابهم العميق، ويتطلّعون حولهم مندهشين من غياب الأسرّة والبحر والنوافذ والنوارس البيضاء، ويصغون ثم يصغون شاعرين باليأس قبل أن يخرجوا واحداً بعد الآخرعائدين ربما إلى تلك الأيام، إلى الشوارع أو المطارات أو العواصم أو السفن أو الغابات أو المنحدرات الجبلية. 

ستروي الأمكنة حكاياتها هاربة من الموتِ كما تفعل الوعولُ فوق المرتفعات 

سآخذهم إذن إلى المركز الرئيس، إلى المكان المألوف الذي لن يدهشوا فيه ولن ينتابهم اليأس. ليس مكان العمل في المجلة بالتأكيد، وليس الأسواق، ولا شارع الجهراء المكتظّ بالعابرين صباحاً ومساءً، ولا المطاعم المنتظرة تحت أعمدته عند كلّ لفتة أو إيماءة، بل ذلك البيت المطلّ على البحر وسط صف بيوت تماثله، بطابقيه الطويلين، وجداره الأبيض، وقضبان نوافذه السوداء، والبلى الذي يأكل أسافله، ويستدير إلى بوابته، ويقتحم باحته، ثم يتحوّل إلى حبال غسيل مهترئة وجرّة ماء مخروطية ضخمة لا يرشح منها الماء وسدرة بيت معتمة متشابكة الأغصان، وينتشر في الغرف السفلية وعلى ملابس سكانها، ويصعد إلى الطابق الثاني حيث المزيد من الغرف والحنايا، والمزيد من الجص المتساقط من الجدران.

هنا المركز، في الطابق الثاني، في غرفة طويلة واسعة تزحمها على الجانبين، حين تكون خالية من سكانها، أسرةٌ من كلّ نوع، خشبية وحديدية، وتطلّ منها نافذة وحيدة تآكل إطارها الخشبي على سطوح بيوت طينية منخفضة تتناثر عليها صناديق خشبية قاتمة وإطارات سيارات وألعاب أطفال مهجورة يتلبّد عليها الغبار، ويتلألأ في أعلاها زبد أمواج البحر حين يرتفع البصر. 

كان كلّ هذا يختفي حين يتوافدون، ويتركّز النظر على آنية الطعام، أوالكتب التي يعتني بتجميعها أحمد النمّول عناية تفوق حجمه أو دخله الضئيل من عمله في صحيفة شهرية لايقرأها أحد، أو على مشهد علي الطشّ وصوته العالي وهو يتنقّل من مكان إلى آخر بلا فكرة عمّا يفعله بحياته أو عضلاته أو عقله الساذج، أو مشهد أبو عواد متمدّداً على سريره كأنه يتموّج على ظهر زورق أو سفينة حالماً  برحلات بحرية ونوارس في أقصى الكرة الأرضية.

لم يكن هؤلاء وحدهم سكان البيت، أو هذه الغرفة، فهناك ذلك الذي اختار تجويفاً في جدار عند منعطفِ الدرج بعيداً عن ضوضاءِ الغرفة وسكّانها، ولاندري كيف، من سريرٍ ومقعدٍ واطئ ورفّ من معدنٍ قاتم  يكتظّ بخزفياتٍ بلغارية وتماثيلَ خشبية هندية، وجدار تآكل طلاؤه الأبيض تلتصق عليه بلا انتظام بضعة رسوم لناجي العلي تتزاحم فيها الكروش المتضخّمة والعيون البلهاء والوجوه النحيلة  لفقراء المخيمات، وجلس هادئاً متربعاً على سريره يسرد علي ذكرياته وآراءه في الحياة وسكان الغرفة، وبما يبتغيه من حياته، ومن هذا الكون الذي يودّ أن يصل إلى أبعد نقطة فيه. 

وهناك ذلك الصحفي الزائر، صاحب علبة لف التبغ اليدوي الفضية، القادم أحياناً حين تدفعه أكوام كتبه إلى خارج غرفته في الطابق السفلي، ويدفعه الفضول، فيحتل مكانا على طرف سرير ويتحدّث عن كامو أو سارتر إلى بسطاء تنفتح عيونهم دهشة وأفواههم أيضاً وهو يحاول بلهجة قاطعة إثبات أن حياتهم عبث في عبث ولا خلاص إلا بالتمرد على كل شيء، وهناك جمال عامل البناء النحيل الذي يتحدث دائماًعن ظهيراتٍ ناعسة بين أشجار القرى التي تجوّل فيها صَبياً يبيّض أوعية القرويات النحاسية، حتى ظل يبدو وكأن شمس ظهيرة تظلّله دائماً، سواء حملته سيارة أو وقف على سقالة مبنى أو دخل الغرفة صارخاً أو جلس مستكينا صامتاً يحتضن مخدة سريره، وأخيراً هنالك ذلك الزائر الذي أطلقوا عليه تسمية  أبو القشب بسبب تكراره لهذه الكلمة كلما تذكر طفولته وهو يرعى الغنم في الوعر القريب من جنين. 

كان أبو القشب مصوّراً صحفياً، تهبط به عادته القديمة في رعي الأغنام إلى ظهيرة مُضجرة تفصل بين وقت العمل صباحاً والعمل مساء، فيأتي إلى الغرفة مدفوعا بالفضول أو الالتصاق ببعض من هؤلاء القادمين الذين لا يتخيّلهم إلّا قادمين من الوعر نفسه، فيستلقي على سرير أحدهم، أو ينصت جالساً على طرف صندوق، أو يلتقط صوراً لأرجاء الغرفة تتغيّر مع تغيّر المشهد بين لحظة وأُخرى حين يعود من يعود ويذهب من يذهب، أو حين يتجمّع من يتجمّع حول مقلاة أو إناء طعام، أو يتناثر من يتناثر فوق هذا السرير أو ذاك، ممسكاً بكوب شاي أو مشغولاً بتقليب صفحات كتاب أو ساهماً مثل ذلك الذي أطلقوا عليه اسم الميت حين قدموني إليه لأول مرة. 

حتى الآن لا زلتُ أرى الميت، بائع خردوات السيارات، في لقطةٍ متحرّكة، يتطلّع في وجوه من حوله كأنه يحاول أن يتذكر شيئاً، ثم يسأل سؤالاً يثير الضحكات من حوله، ويُصاب بصمتٍ حائرٍ لا يعرف أين يمضي به، فينظر إليه أبو القشب نظرة إشفاق ومودة، يضع عدسة تصويره جانباً، ثم يربّت على كتفه. كلاهما في الهم سواء، هذا ببلاهته المؤكّدة، وذاك بلقبه الذي لا ينساه ولا يترك أحداً ينساه. 

المساهمون