أدلجة الثقافة في إيطاليا بين دوستويفسكي والأدب العربي

11 مارس 2022
جدارية تضامناً مع أوكرانيا ونسائها في "اليوم العالمي للمرأة"، 8 آذار الجاري، روما (Getty)
+ الخط -

لم يمرّ قرار جامعة "بيكوكا" (ميلانو) إيقافَ دروسٍ مبرمجة حول دوستويفسكي، أخيراً، للتنديد بالحرب الروسية على أوكرانيا، دون انتفاضة المثقّفين الإيطاليين على التيّار المسيِّس  للثقافة في البلاد. أصواتٌ لا تُعلن أيّ اصطفاف أيديولوجي في أغلبها، أو ربما هي خلايا نائمة من التيّار المحافظ لم تكن تجرؤ علناً على معارضة المؤسّسة الثقافية التي يُهيمن عليها اليسار في إيطاليا، خشيةَ الحرمان من الدعوات إلى المهرجانات والظهور في الحصص التلفزيونية والملاحق الأدبية للصحف الكبرى.

وكانت إجراءات ثقافية سابقة، اتّخذتها إيطاليا في سياق الحرب، قد مرّت ذاتها مرور الكرام، على غرار مقاطعة "أوبرا سكالا" في ميلانو لقائد الأوركسترا العالمي فاليري غيرغيف بسبب امتناعه عن إدانة النظام الروسي، بالإضافة إلى إلغاء المشاركة الروسية في "معرض بولونيا لكتاب الطفل" المزمع إقامته هذا الشهر. وهي جميعها تحرّكات لقيَتْ معارضة محتشمة من أسماء قليلة جدّاً من المثقّفين، على غرار دافيد نييري صاحب دار نشر "لافيلا"، الذي وصف التهييج الإعلامي ضدّ كل ما هو روسي بـ"المتوحّش"، والكاتبة الصحافية دانييلا بالومبو التي دعت "معرض بولونيا للكتاب" إلى مراجعة قراره الأخير.  

إلّا أن شرعية دوستويفسكي التاريخية، والحاضنة الشعبية التي يتمتع بها، منحتا زخماً أكبر لأصوات المعارضين لتيّار تسييس الثقافة في البلاد. ليركبَ الموجةَ مثقّفو اليسار المؤدلجون أنفسهم، بعد أن وصل صدى الفضيحة ــ التي تدخل في إطار الممارسات العاديّة في ديناميكيات العمل الثقافي في إيطاليا ــ إلى الصحف العالمية.

شعبية دوستويفسكي منحت زخماً لمعارضي إيقاف تدريسه

وحاول "الصالون الدولي للكتاب بتورينو"، بعدها، التخفيف من هول الواقعة من خلال مشاركة منشور محتشم على مواقع التواصل يتضمّن اقتباساً لهيرمان هيسه عن أهمّية أدب دوستويفسكي، لم ينجح في التورية على الممارسات الممنهجة في أدلجة العمل الثقافي في إيطاليا عبر المؤسّستَيْن الأكاديمية والإعلامية، حيث أتبعه في اليوم الموالي بسلسلة منشورات مندّدة بالحرب الروسية، مع دعوات لقراءة الأدب الأوكراني.

التخندقات السياسية المكشوفة للمؤسّسات الإيطالية المسيطرة على دواليب الثقافة، دفعت بأغلب الكتّاب الإيطاليين في السنوات الأخيرة لإعلان انتمائهم إلى "الشيوعية" على نحو كاريكاتوري، في محاولات طريفة يتلبّس من خلالها صغار المثقّفين عباءات بازوليني ومورافيا للظهور بمظهر المتمرّدين على المجتمع، في مشهد خارج سياق التاريخ. ذلك أن إعلان الشيوعية لم يعد يشكّل خطراً على صاحبه في الغرب منذ تفكّك الاتحاد السوفييتي، بل أصبحت اليسارية، أخيراً، لقباً استعراضياً ينحصر من خلاله دور المثقّف الإيطالي في دعم حركات النسوية والمثلية والعبور الجنسي، لا الانخراط في النضال الخطير والحقيقي لهزّ القيَم الجوهرية للمجتمعات الرأسمالية، والتي تظهر في الشقّ الاقتصادي على نحو مروّع لا يأبه به شيوعيّو المهرجانات والمظاهرات الراقصة.

وقد برزَ، على إثر ذلك، نوعان من اليسار الإيطالي خلال العقدين الأخيرين، يكاد لا يجمع بينهما أيّ عنصر مشترك: يسار مهيمن على المشهد، وهو يسار المنظّمات غير الحكومية الثرية و"النيتفلكس"، ويمثّله أغلب المثقّفين الإيطاليين الذين أعلنوا الانحياز لحكومتهم ضمن الحرب الدائرة في الوقت الحالي، على غرار روبيرتو سافيانو وأغلب نجوم الساحة؛ ويسار ملعون ومنبوذ، هو سليل المدرسة السوفييتية، ولا يكاد يظهر في المشهد مطلقاً، ويعلن اليوم اصطفافه الصريح مع روسيا، غير مبالٍ بعواقب هذا الانحياز. من أسماء هذا اليسار نذكر الكاتب والشاعر روبيرتو فاليبيانو، صاحب كتاب "مكتب اليساريين المنكوبين: الثقب الأسود الذي ابتلع اليسار" (2017)، والذي لا يكاد يسجل حضوره في أيّة تظاهرة سوى من خلال صفحة تحمل عنوان كتابه على "فيسبوك".

في البلد يساران لا يتشابهان: يسار نيتفلكس ويسار منبوذ

وفي الوقت الذي تمكّنت فيه هذه الحرب من فرز مثقّفي "يسار الكافيار" الاستعراضيين ــ كما يُطلَق عليهم في فرنسا ــ عن الأقلّية الشيوعية الحقيقية المتبقّية في أوروبا في سياق تحولات اجتماعية وسياسية تخص المجتمعات الأوروبية. إلّا أننا نجد أن الكثير من المثقّفين العرب قد اختاروا التدخّل في ما لا يعنيهم والانحياز بالفعل ضمن هذه المعادلة إلى خطّ اليسار النيوليبرالي، والانخراط في خطاباته الأيديولجية لضمان ترويج أعمالهم، وذلك في مفارقة مثيرة للاهتمام يُعلن فيها مثقّفون الانشقاق عن دكتاتوريات صريحة للارتماء في أحضان دكتاتوريات موارِبة. مع تسجيل استثناءات قد تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة. 

والغريب أن المؤسّسة الثقافية الإيطالية لم تُخفِ يوماً توجّهاتها الصريحة في تشجيعها أدلجة الأدب العربي، حيث لم تخجل لجنة تحكيم جائزة "بوتاري لاتيس" من تسويغ فوز الرواية العربية المتوّجة لدورة 2020 في كونها تندّد بممارسات "السلطان العثماني الجديد أردوغان" ــ في رسالة واضحة إلى المترجمين الإيطاليين للمواصلة بالقيام بخيارات سياسية للوصول إلى منصّات التتويج. مع العلم أن أغلب الكتّاب العرب قد سايروا هذا التيّار من خلال الحرص في كل مناسبة غربية على التنديد بالحكم العثماني للدول العربية على نحو مفارِق تاريخياً ومثير للسخرية.

لا تخفي المؤسّسة الثقافية الإيطالية رغبتها بأدلجة الأدب العربي

وتكاد ثقة الكاتب العربي بجودة أدبه وشعبيّته تتناسب عكسياً مع كمّ المواقف السياسية والأيديولوجية التي يضطرّ للإعلان عنها في الغرب لضمان الأكل من فُتات المهرجانات الأوروبية على طاولة "الإنكلوزيفيتي". شعار "الإنكلوزيفيتي" (الإدماج) هذا، دفع بالجامعة الإيطالية، آنفة الذكر، لتصحيح خطئها بعد "رفع العقوبة" عن دوستويفسكي بـ"إدماج" أدباء أوكرانيين إلى جانبه ضمن المناهج الدراسية، في تحرُّك مضحك آخَر يُظهر حالة من جنون العظمة لدى المؤسّسة الثقافية الغربية التي تخال أنها قادرة على صناعة أدباء خالدين من خلال قرارات بيروقراطية، تشطب فيها مَن تشاء وتُدرج من تشاء في قائمة العظماء. 

وفي الوقت الذي دلّت فيه الردود الغاضبة التي أعقبت تجرؤ الأكاديميا الإيطالية على زجّ دوستويفسكي في الصراع الدائر بين الغرب وروسيا، على صمود الأدب الحقيقي في مواجهة السياسة ونَزَقها، تأتي مجاراة الكتّاب العرب لعمليات تسييس أدبهم وأدلجته الممنهجة للتأكيد على تعاسة المشهد في الأدب العربي المعاصر. مشهدٌ بقيَ، لشدّة الانبطاحات التي سجّلها في العقود الأخيرة، بلا بواكٍ في الشرق ولا قرّاء حقيقيين في الغرب قد يقفون يوماً ما للدفاع عنه عند انتهاء موضة حروب المنطقة...


* كاتبة جزائرية مقيمة في إيطاليا

المساهمون