أثر الفراشة.. ثقافة تقوم على المنع لا الحرية

22 اغسطس 2022
نهاد كولي/ سورية
+ الخط -

يوجد مذهب واسع من القرّاء لا يوفّر فرصة للقول بأنّ المنع يخدم الكتاب، ويزيد من شهرة الكاتب. وهذا رأي شائع في أوساط القرّاء بصورة يصعب معها النقاش، خصوصاً في ثقافة تكثر فيها المقدّسات التي تُوجِب المنع، إذ ترتبط فكرة المنع ارتباطاً جوهرياً بالدعاية.

في الظاهر، تبدو هذه المقولة صحيحة. لكنّها تُخفي لا أقلّ من شرخ أو إسفين يضرب عمق الثقافة التي تتبدّى وكأنّها تقوم على المنع، لا على الحريّة، وهذه هي المفارقة التي يبني عليها جمهور القرّاء آراءه حيال الخدمة التي يقدّمها المنع لـ الكتاب. وقد يذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأنّ الكتابة عن إشكاليّة ما أسلوبٌ يتّبعه الكاتب كي يُمنَع كتابُه، وبالتالي كي يصل إلى جمهور أوسع، وكأنّما هدف الكتابة هو المنع أو الشهرة التي قد تُحالف أحدَهم وتحيد عن آخرين، لا التأثير الحرّ المترامي الذي يُحاكي أثر الفراشة في الفيزياء.

وأثر الفراشة هو أن تُسبّب رفرفة فراشة في الهند زلزالاً في أميركا عن طريق سلسلة أحداث تحاكي طبيعة الأشياء التي تتداعى تعاقبياً، مثل أحجار الدومينو. المنع ببساطة، حدث ضِدّ الطبيعة لا لأنّه يوقف تأثير الفراشة، بل لأنّه يعمل وفق المبدأ نفسه، ويصنع بدوره أثره الخاص. فالنّص الذي يُمنَع يحضر في الذائقة العامّة باعتباره نصّاً ممنوعاً، وتصير القراءة بذاتها قراءة للممنوع؛ أي: اقرأ، لكن انتبه هذه النّص ممنوع. وعلى ضوء هذا، يصير تأثير النصّ معكوساً، وخطورة المنع أنّه يودي بالموضوعات المكتوبة إلى سياق آخر مختلف كليّاً مع الوقت.

هذا ما يفعله المنع: يقلب موازين الكتابة والحياة

بصرف النظر عمّا إذا كانت الكتابة قادرة على التغيير، فإنّ تسويقها باعتبارها ممنوعةً يجعلها بصورة مؤكّدة عاجزة عنه، وأحياناً يجعلها تخدم سياسات هي ضدّها أساساً. فعوض الحديث عن الجسد بوصفهِ أداة للتعبير عن الذات، يصبح الحديث عن الجسد أداة للتعبير عن قمعها. هذا ما يفعله المنع؛ يقلب موازين الكتابة والحياة. وعلى سبيل المثال، تُصبح الكتابة عن الاستبداد السياسي بعد المنع سبيلاً لمنع انتقاد الاستبداد السياسي بصورة واسعة. فالكتاب الممنوع الذي يحضر بعد مقدّمة المنع، يحضر بمحتوى مقلوب في ذهن القارئ.

في النتيجة، قد يصل الكتاب الممنوع إلى جمهور أوسع، لكنّه يصلُ مقلوباً، وكأنّما وضع أحدُهم الحذاء مكان الرأس، والأيدي مكان الأرجل في لوحة سريالية. والكائن المشوّه الدميم هذا، ما هو إلّا إحدى تصوّرات المنع الذي يُفرّغ الفنّ من قوّته في استنطاق الأشياء، وجعل البشر ينسجمون مع ذواتهم، ويصنعون تجاربهم بكلّ حريّة وأصالة.

قد يصل الكتاب الممنوع إلى جمهور أوسع، لكن مقلوباً

المناسبات التي لا تترافق مع منع كتاب أو كاتب قليلة في العالم العربي، فالمنع أشبه بالظاهرة في العديد من معارض الكتاب في البلدان العربية. وبشكل عام، تختلف أسباب المنع، لكنّ الحديث عن المنع الذي يرتبط بما هو مقدّس هو أكثر الأحاديث صعوبة؛ إذ من حق الناس أن يكون لديهم مقدّسات - هذه طريقة من طرائق العيش - واقترابُ الفنّ الذي يُعتَبَر أداةً من أدوات البشر، من مقدّسات أحدهم فوق البشرية، قد يراه نوعاً من الاعتداء والانتهاك الأرضي لما هو سماوي، لكن أداة الفنّ ليست السكّين ولا كاتم الصوت أو العبوة الناسفة، بل الكلمة الحرّة.

أكثر من يسيء إلى المعتقدات هم أصحابها. أمّا ما يفعله منع الكتاب، وفي حالات متشدّدة منع الكاتب نفسه بالتحريض عليه وإهراق روحه، فهو - عدا عن جعل العالم مكاناً غير آمن - يُضخّم أثر القمع، لا أثر الكتابة؛ فالمنع يمنح لذلك الكائن الدميم روحاً كي يخرج من اللوحة الصامتة إلى الساحات؛ في رأسه تدور فكرة القتل، وبيديه الحرّتين يُسقِطُ المقصلة.


* روائي من سورية

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون