لسنوات طويلة، اقتصر اهتمام الثقافة العربية بـ"جائزة نوبل للأدب" على الرهان على فوز أدونيس من عدمه، وارتباطُ الحدث عربياً باسم الشاعر السوري كان يزداد أو ينقص مع تعقيد الوضع السياسي في بلده. بالتالي، ما إن خرج ما حدث في سورية - وهو مستمرّ بالحدوث - من دائرة الاهتمام الإعلامي والسياسي العربيّين، حتّى نقص حضور اسم أدونيس في النقاشات التي تسبق نوبل؛ إذ يوجد في الوعي العام الذي يستقبل الجائزة اعتقادٌ مؤكَّد بترابط السياسة مع الثقافة، كما لو أنّ الأدب يمثّل أحد بيادق السياسة، وهو يمثّل انعكاساً لها، إمّا من موقع ردّة الفعل، أو باعتباره مُستَخدَماً لديها.
وهكذا، عاماً بعد آخر، ينتقل الرهان على اسم الفائز من بلدٍ مأزوم إلى آخر، بحسب بؤرة الصراع والاهتمام الغربيّين بصورة رئيسية. بهذا المعنى، كان اسم الفائزة غير متوقَّع، فالروائية الفائزة ليست أوكرانية وليست من أصول أوكرانية، ولا تتبنّى خطاباً ضدّ روسيا، وأكثر من ذلك، ليست الحرب واحدة من موضوعاتها الأثيرة، على العكس، إنّها تتحدّث عن العالم الداخلي للبشر، لا عن صراعاتهم مع الآخرين... عن صراعاتهم مع أنفسهم ومعاركم مع الذاكرة، وهي معارك لا يعرف الآخرون عنها شيئاً.
عربياً أيضاً، يسجّل فوز الفرنسية آني إرنو (1940) سقوط رهان آخر ارتبط بالجائزة، وهو القول إنّ الترجمة العربية متأخّرة بشكلٍ مؤكّد عمّا يحصل في العالم، مع أنّ القارئ والمترجم والناشر العرب لا يتوقّفون، كلٌّ بدوره، بمناسبة وبغير مناسبة، عن التغنّي بالكتاب المترجم بصورة يبدو معه ألّا تأليف البتّة في هذه الثقافة، حتى على مستوى الشعر الذي يمثّل عمقاً وإرثاً بالنسبة إلى الثقافة العربية من بين شتّى صنوف الكتابة.
تكتب عن العالم الداخلي للبشر، لا عن صراعاتهم مع الآخرين
قرّاء العربية يعرفون الفائز هذا العام، والكاتبة الفرنسيّة مترجَمة بشكل جيّد نسبياً إلى لغة الضاد. ولها؛ "الاحتلال" و"شغف بسيط" و"الحدث" و"لم أخرج من ليلي" و"انظر إلى الأضواء يا حبيبي" و"المكان"... وهي تعالج في رواياتها مسائل مرتبطة بسلطة الآخرين على الفرد وبقدرتهم على رسم مصيره عبر الارتباطات العاطفيّة؛ ما يتمثّل في الموضوعات التي تختارها، مثل الإجهاض كما في روايتها "الحدث"، أو موت الأم كما في روايتها "امرأة"، وفي الأمكنة التي تدور فيها هذه الروايات، مثل دار المسنّين كما في "لم أخرج من ليلي"، كما أنّ شخصيات إرنو تراقب الحياة التي تجري من حولها في قاعة الانتظار لدى طبيب، في الشارع وعلى الرصيف، وفي القطار، وهي أماكن تمثّل مشاركةُ الآخرين لنا فيها نوعاً من التجاهل، وترف ألّا يكون المرء مرئياً بالنسبة إلى الآخرين.
وبذلك تنقل الكاتبة الأصداء التي تتردّد في داخل الشخصيات، من خلالها الوجود في أماكن تتجاهل وجودها. كما لو أنّ المكان لديها مجرّد ذريعة كي تعود الشخصيات إلى ذواتها وتستمع إلى مخاوفها. وهي، بالتالي، تنتمي إلى محيطها بمقدار ما يتجاهلها هذا المحيط، وهي شخصيات حسّاسة بمقدار عنف التجاهل الذي يسم صورة الحياة.
عدا عن الكتابة من تجربتها الشخصية، تركّز إرنو في كتبها على الحديث عن المرأة، عن علاقتها بجسدها، وحرّيتها بذلك الجسد وردّ العنف عنه... وعن الأم، بما تمثّله الأمومة من صياغة عاطفيّة للعالم، أو باختيارها مرض والدتها، ألزهايمر، موضوعاً أثيراً، بما يمثّله المرض من إحساس بخطر التجاهل وقسوة النسيان، لا نسيان الأمكنة والأشخاص البعيدين فقط، بل حتّى من صنعوا عالمنا يوماً.
وقد جاء في إعلان فوز الكاتبة أنّها مُنحت الجائزة لشجاعتها وللرهافة التي كشفت بها الاغتراب والقيود الجماعيّة للذاكرة الشخصية. إذن، بهذه الصورة يمكن أن يُقرأ فوز الكاتبة الفرنسية بأنّها تمثّل جانباً من عصرنا، جانباً لا يتوقّف فيه المرء عن الشعور بالحاجة لأن يكون منسياً.
* روائي من سورية