لا يوجد أيّ سبب يجعل الفيلم اللبناني "74، استعادة لنضال" درامياً وثائقياً، بحسب ما يُرَوَّج له، لمجرّد أنه يستند إلى حادثة حقيقية. على طول مساحة الفيلم هناك طاقمٌ من سبعة ممثّلين، وحوار متخيّل، وصراعات متخيّلة، وعلاقة حب رومانسية، متخيّلة أيضاً. كلّ ذلك في تسعين دقيقة روائية خلّابة، من فرط روائيتها بدتْ كأنّها تسجيلية واقعية لشباب يؤدّون أدوارَ طلّاب احتلّوا "الجامعة الأميركية في بيروت" عامَ 1974.
مضت الآن عشر سنوات على إطلاق الفيلم (2012)، وقد وفّرت منصّة "أفلامنا" (aflamuna.online)، عرضه مؤخراً لإعطاء فرصة مشاهدة مجّانية لفيلم يصعب تلقّفه خارج مواسم المهرجانات.
استلهم مخرجا الفيلم، رانيا الرافعي وشقيقها رائد الرافعي، فكرتَه خلال عملهما معاً في سلسلة "الطلبة والسياسة" التي بثّتها "الجزيرة الوثائقية" وتناولت دور الحركات الطلّابية السياسية في عدّة دول عربية؛ إذ عثرا على لحظة فارقة قُبيل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان: لحظة احتلال الطلّاب لـ"الجامعة الأميركية" لمدّة 37 يوماً، بين آذار/ مارس ونيسان/ إبريل من عام 1974.
كلّ فكرة وثائقية يمكن أن تُطلق خيالاً، وفي حالة فيلمنا هذا، لمعَ التحدّي الأكبر: وهو كيف يمكن العبور في مشهدٍ محصور طوال الوقت بين أربعة جدران؟ لا بدّ من نصٍّ يتحرك مع كاميرا نديم صوما، ومن خلفهما مخرجان كأنهما غير موجودين.
المدينة التي يتوقون إليها هي غابةٌ من القصائد والبنادق
مَن هُم السبعة المتخيّلون الذين قادوا مجلس الطلبة واحتلّوا جامعة، هؤلاء الذين يبلغون اليوم، افتراضياً، السبعين من العمر، لكنّهم بالفيلم في مقتبل العشرينيات؛ طلّاب ثوريون يريدون تغيير العالم الرجعيّ والمنحى الإمبريالي لجامعتهم؟
هؤلاء السبعة هُم مَن يتكلمون بوصفهم نخبة الطلبة، ونحن لا نرى الآلاف منهم في الخارج، ولكنّنا نسمع ــ عبر سمّاعةٍ ــ ممثّلي الطلبة يلقون البيانات، ونرى في الصالة غرافيتي يضجّ بالأيقونات: من "حنظلة" ناجي العلي إلى صورة غيفارا التي رُفعت بدل صورة الرئيس الأميركي نيكسون، مروراً بشعار "يا طلّاب العالم اتّحدوا".
ستكون واقعة رفع رسوم الدراسة 10% شرارة الاحتجاجات، يليها فصْلُ العشرات من الطلاب، ثمّ قرار احتلال الجامعة من طلّاب غاضبين، تلقّوا دعماً مهمّاً من طلاب في جامعات لبنانية أخرى، ليستقرّوا في حيّز واحد، فيبدو لبنان والوطن العربي، بل العالم كلّه في لوحة واحدة، مرسومة بيد يسارية غالباً من شباب مؤدلَج، وناقمة بالمجمل.
إذا كان الفيلم ناجحاً، فإن علامة النجاح تكمن في إمكانية جعل النصّ غنياً، وجعل حركة الكاميرا ــ في أمتار قليلة ــ قادرة على ملاحقة السطوح والأعماق، حتى الصمت كان قادراً على حمل طاقة تعبير من الصعب توفّرها في سبعة يُقَدَّمون على أنهم ناشطون في الواقع، وغالباً ليست لهم تجربة تمثيل سابقة قبل هذا الفيلم.
تحوّل الشباب المعتصمون إلى متحدّثين باسم جموع "متخاذلة"
ربما يجوز القول إن أيّ واحد منّا يمكنه التمثيل، إذا وُضع في مساحة وظرف يستفزّان فيه أقصى ما يحلم به المخرج، ألا وهو الواقعية السهلة التي يبدو فيها مَن يدير العمل كما لو أنه نَسي الكاميرا مفتوحة، بل كما لو أنه متغافل عنها. هذا هو الدهاء الذي يُستلهَم من عبارة تحيلها بعض المصادر إلى معاوية بن أبي سفيان: "ثُلث الحكمة (الكاميرا) فطنة وثلثاها تغافُل".
فلا يبدو الشباب إلّا ارتجاليّين، رغم أن ثمّة نصّاً مشغولاً بالبحث، وخصوصاً الذي اضطلع به رائد الرافعي، مثلما هو مشغول بالاختلاف في ما بينهم ــ الحادّ في مرّات عديدة ــ بين حالم وحالم أكثر، ومتطرّف ومتطرّف أكثر.
العالم الذي يريدون تحطيمه أميركيٌّ استعماريّ بطرياركي، والمدينة المثالية التي يتوقون إليها غابة من القصائد والأغنيات والبنادق، رموزها غيفارا وغسّان كنفاني وفدائيون يغنّون لهم. وحين يلعبون لعبة "مَن القائل؟"، يجزم الطالب الفلسطيني أن عبارة "يمكنكم أن تقطعوا الأزهار، لكنْ لا يمكنكم أن تمنعوا الربيع من القدوم" قالها أبو عمّار وسمعها منه مسجّلةً، بينما هي للشاعر التشيلي نيرودا.
هذا هو الحيّز إذاً. أمّا الخارج، فكنّا نسمعه بصوت مكتفٍ بقراءة العناوين الواردة في ثلاث صحف: "النهار" و"السفير" و"المحرّر". العناوين تلخّص الغليان الذي يتصاعد محلّياً وخارجياً: الفقر يعضّ بناب أزرق في الجنوب؛ ثلث الأرض لعشرين ألف عائلة فلّاحية والثلثان للإقطاع؛ "إسرائيل" تقصف ستّ قرى في جنوب لبنان؛ وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان يجدّد تهديداته: سنجعل جنوب لبنان غير صالح للعيش...
كلّ ما في الخارج ــ ورغم فارق القوّة بين مجرد طلاب عُزّل ودولة تؤجل قرار الاقتحام حتى فجر اليوم السابع والثلاثين ــ كان يبدو ثنائيةً من الأعداء والضحايا الذين يتحدّثون باسمهم.
إلّا أن العالم الثوريّ الصغير وصل إلى خاتمة الفشل، ليس لأن 800 رجل أمن جاؤوا بمصفّحات واقتحموا حرم الجامعة، ونكّلوا بالعشرات، بل لأن الاقتحام تلا سياسة مدروسة لعزل المثاليين، وجعل مجتمعهم سلبياً على الأقل تجاه معركة التشنيع التي طاولتهم، بدءاً من اتهامهم بتعاطي الحشيش وممارسة الجنس في الحرم الجامعي، وصولاً إلى اعتبار حراكهم فوضوياً. لقد تحوّل الشباب إلى متحدّثين باسم جموع "متخاذلة".
هؤلاء السبعة هُم: نسيم عرابي، ويسري الشامي، ونزار سليمان، وريتا هدرج، وأسعد ذبيان، وسندرا نجيم، ومعروف مولود؛ استطاعوا أن يخدعوا أنفسهم بموهبتهم ويخدعونا.