"نحن والغرب" والأوهام.. ثلاث نظرات إلى الذات والآخَر

26 مارس 2022
من الندوة (العربي الجديد)
+ الخط -

يروي عبد الوهاب الأفندي، رئيس "معهد الدوحة للدراسات العليا" بالوكالة، أنه بينما كان يتمشّى في أحد أيام الآحاد في شوارع لندن، يطالع معالمها الشهيرة ومنها قصر بكنغهام، لفتت نظره لوحاتٌ مسجّلةٌ عليها أسماء أبطال الحروب البريطانية الحائزين على "صليب فكتوريا"، وهو أعلى وسام عسكريّ، ليجد أن ما يقارب النصف منهم مسلمون. تصلح هذه الحكاية عتبةً مفتاحية لندوة وزارة الثقافة القطرية ضمن "موسم الندوات"، التي أقيمت في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، أوّل من أمس الخميس، تحت عنوان "نحن والغرب. المركزية العربية ومفهوم العالمية: عقدة الغربي بين الحقيقة والوهم".

ثمّة في عنوان الندوة ما يفتح أسفاراً من الكتابة حول "النحن" و"الغرب" و"العالمية" و"المركزية". وعليه، قارب كلّ من المتحدثين الثلاثة، الذين جمعتهم الندوة، مواضيعَ تشبه أنهاراً شتّى تنتهي إلى حوض مائيّ كبير، يصبّ في بحار ومحيطات أكبر.

عودة إلى علّال الفاسي

فهذا هو رشيد بوطيّب، أستاذ الفلسفة في "معهد الدوحة" ومدير تحرير دورية "تبيّن"، يفتتح مشاركته بالمزيد من الأسئلة التي رافقت العرب منذ بدايات القرن العشرين: هل ما زالت هذه الأسئلة التي يطرحها عنوان الندوة تمتلك شرعية معرفية؟ هل نعرف مَن نحن؟ هل "النحن" مكوِّن ثابت ومفارق للتاريخ؟ أليس الغرب مجرّد مفهوم إيديولوجي أو مفهوم للهيمنة، كما يقرؤه الفيلسوف الفرنسي فرانسوا جوليان؟ هل انتهت اللعبة الغربية، كما كتب فرانز فانون في الصفحات الأخيرة من كتابه "معذّبو الأرض"، أم أن الغرب مكوِّن من مكوّنات هويّتنا المتعدّدة، كما سيدافع عن ذلك عبد الكبير الخطيبي في "المغرب المتعدّد"؟

وبما أن الأجوبة ستختلف وتتضارب في سياقنا العربي، يقترح بوطيّب العودة إلى مفكّر وفقيهٍ سلفيّ قدّم، في اعتقاده، الجوابَ الأكثر جدّة حول هذا الموضوع، وذلك على الرغم من الأفق التوفيقيّ الذي ظل يتحرّك بداخله. هذا الفقيه المفكّر هو علّال الفاسي، وكتابه هو "النقد الذاتي"، وبالتحديد في الفصل الرابع عشر منه، الموسوم بـ"الفكر بين العَصرية والمُعاصَرة"، ليس فقط لأن مفكّرَيْن معروفَيْن، هما عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، عادا إلى هذا الكتاب، ولكنْ لأنه يمكن أنْ يمثّل منطلقاً داخل السياق الثقافي العربي لما يمكن تسميته بنظرية عربية في البيوثقافية. وبعبارةٍ أُخرى، فإن هذا الكتاب يقدّم، وإنْ بشكل أوّلي، جواباً عن سؤال: أي علاقة نريد بالحداثة الغربية؟

قدّم علّال الفاسي الجواب الأكثر جدّية عن سؤال العلاقة بالغرب

خلاصة علّال الفاسي، التي يهتدي بها المتحدّث، تقوم على التفريق بين "العَصرية" و"المُعاصَرة". وعبر هذا التفريق يطلب تجاوز ما يسمّيه "الضعف العقلي"، والذي يجده عند المحافظين من أنصار أنّ كلّ شيء موجودٌ في القديم، و"المستغرِبين" ممّن لا يرون حلّاً لأدواء مجتمعاتنا إلّا في الغرب. والفريقان معاً يسقطان، وفقاً لعلّال الفاسي، في التقليد، وهما يسقطان في ذلك لأنهما يخلطان بين العَصرية والمُعاصَرة، أي بين ما هو عصريّ وما هو معاصِر.

المشكلة في رأي هذا الفقيه والمفكّر السلفي تكمن في التقليد. وبعبارةٍ أُخرى، يوضّح بوطيّب أنّ علينا أنْ نأخذ من الغرب ما هو عصريّ، أي ما يساعدنا في الجواب على أسئلة عصرنا وقضايا واقعنا الملحّة، وليس في ما هو معاصر. وكي نتجاوز هذا المأزق، يقول إن علينا تجاوز الخطاب التقليدي المحافظ، وكذلك الخطاب التغريبي كالبورقيبية التي حكمتنا في مجالَيْ السياسة والتفكير.

واستحضر المتحدّث قول الفاسي "إن المنهج العصريّ الصحيح هو الذي يفتح أمامنا آفاق التقدّم، وإنه لَمِن العجز والكسل أن نحاول اختصار الطريق بانتحال مذهب من المذاهب القائمة، لا لشيء إلّا لأنها تغنينا عن الفكر والبحث. إن ذلك أعظم مساسٍ بكرامتنا كأمّة ذات تاريخ عقليّ وحضارة روحيّة".

وأشار بوطيّب، في الخاتمة، إلى كتاب كلاسيكي هو "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، الذي يتحدّث فيه كارل بوبر عن السياق الديمقراطي، حيث يصبح لكلّ جيل من الأجيال الحقّ في أن يقرأ التراث بطريقته التي تلائم عصره وأسئلته، وبذا، كما قال، يكون ما جاء به علال الفاسي بشأن مفهوم العصرية والمعاصرة صحيحاً ومناسِباً أيضاً لكي نقرأ علاقتنا بالتراث.


في التَبَعيّة: مريدون ووكلاء

وتناول جاسم الهزّاع، الباحث في التاريخ والفكر الإداري، موضوع التبعية، مستعيداً أمثولة عربية بطلها سيف بن ذي يزن، الذي قال لوفد مكة بقيادة عبد المطلب جدّ الرسول، وقد جاء مهنّئاً بالانتصار العربي على الأحباش وطردهم من اليمن، ولكنْ بمعونة فارسية: "لعلّنا استبدلنا سيّداً بسيّد".

وكما هو الإنسان الفرد، قال الهزّاع إن المنظمات والنظُم تأنف من التبعية ومن وصْمها بالتبعية، مشيراً إلى أنّ في علم الإدارة ما يُسمّى ثقافة المنظّمة الواحدة، والدولة المفكّرة والجماعة العقلانية، وهي ذات أحاسيس جمْعية لا تختلف عن أحاسيس البشر بوصفهم أفراداً. لكنّ دراسة سيرورة النظُم والمنظومات ومآلاتها أمرٌ، وما سجّله التاريخ أمرٌ آخر.

وهنا ساق المتحدّث العديد من الأمثلة في التبعية والثورة عليها، بدءاً من عسكرة الصراع، مروراً بسياسات استعمارية لخّصها ضابطٌ فرنسيّ عام 1845 مع استعمار الجزائر، وقد دعا في سبيل السيطرة على العرب إلى الاستحواذ على الفكر.

وهذا، وفق ما قال، قد آتى ثماره في تقسيم الجسد العربي وإحياء العرقيات والوطنيات التي أصبحت صنماً، لافتاً إلى أمثلةٍ عديدة في التاريخ لم يكتفِ فيها المستعمر بالسيطرة المباشرة، بل أوجد له مريدين ووكلاء يسبّحون بحمده.

الهيمنة الثقافية الغربية من خَلق أنظمة تصارع شعوبها

ومستنداً إلى فرع علْم القيادة في دراسات علوم الإدارة، ذكر الهزّاع أن أيّة دراسة رصينة في هذا المجال لا تغفل الحديث عن رأس الأنظمة والمنظّمات بوصفه وظيفة حيوية. فإذا كانت القيادة منزوعة السيادة ولا تُحسن الإدارة، لا تسأل بعدها عن ضياع الموارد أو تكميم الأفواه، منادياً بأن الحُكم الرشيد لا يكون إلّا حين تكون له أذن صاغية، تقبل النقد والاختلاف.


تقسيم مصطنع

بدوره، جاب عبد الوهاب الأفندي في مجال الشرق والغرب متسائلاً عن حدود ما يجمع وما يفرّق. وقال إن هذا التقسيم بين عالَمَيْن فيه كثيٌر من الاصطناعات. غير أن قضية الأفندي الرئيسية ترى في الهيمنة الثقافية الغربية خَلقاً عربياً، مُحيلاً ضعف دول المنطقة إلى صراعاتها مع شعوبها لا مع الآخرين، ما يشيع مناخاً من الإلحاق بالنموذج الغربي، يصل إلى حدّ طلب الشرعية من "إسرائيل" (التي تعتبر نفسها جزءاً من الغرب).

ومستذكراً ما كتبه محمود ممداني عن الاستعمار غير المباشر بوصفه أسوأ من المباشر، قال إن لدينا هذه الأيام استعماراً ذاتياً يحتاج للدراسة، حيث لا تتورّع الدولة عن استجلاب الاستعمار ليكون عوناً لها على جيرانها وشعبها، في إعادة إنتاج لـ"ملوك الطوائف".

وبعد حديثه عن المركزية العربية الإسلامية وتحوّلها إلى هامش عقبَ اكتشاف الأميركيّتَيْن ورأس الرجاء الصالح، ثم حفْر قناة السويس، وتمركز الحداثة الصناعية في الغرب، وجدَ أن حضور الثقافة الغربية ليس قدَراً، بل يجب أن يندرج ضمن ديناميكيةِ أخْذ وعطاء، تؤمن قبل كلّ ذلك بوجود مقوّمات عند العرب مثلما هي موجودة لدى الآخرين.


اللغة والدين

وعلى جري عادته، إذ ينطلق من حكاية أو مثال صغير ليكون نافذة إلى الموضوعات الكبرى، ينقلنا الأفندي إلى ثروتين هما اللغة العربية والدين الإسلامي. دعكَ من الصناعة والتكنولوجيا، قال وهو يطرح سؤال: "كيف لأسياد هاتين البضاعتين ألّا يدرسوهما في جامعات عربية، ويذهبون عوضاً عن ذلك إلى 'هارفارد' و'كامبردج'؟".

هو يعلم أن السؤال الاستنكاري لا يبدو جارحاً لِمَن قال إنهم أصحاب البضاعة الأصليّون في حقلين يخصّهما أوّلاً، كالدين واللغة، إذ يمكن بمزيد من الاستنكار القول إن آثار البلاد التي تحكي حضارتها اكتشفها غالباً مستعمرون، وما زالت الدراسات العربية فقيرة جدّاً مقارنةً بما يُنتج هناك. وعليه، لم تقف أسئلة المتحدّث عند اللغة والدين، بل سأل عن "فيسبوك" و"تويتر" العربيّين، في وقت أصبح يمكن اختراق عالم التكنولوجيا بسهولة، لتوافرها في أكثر من مركز، وعن صناعة النفط الذي يُصَدَّر خاماً وتُشترى مشتقّاته بأسعار مضاعفة، وما إلى ذلك.

وردّاً على أحد السائلين حول التوجّه شرقاً إلى الصين، قال الأفندي إن الصين ليس لديها ما تقدّمه في سياق عربيّ يريد الإنتاج الثقافي الذي تبتغيه هي، والمتعلّق بالحرّيات إلى حدّ كبير، لافتاً إلى أن هذا متوافر في الغرب، حيث ترتبط المؤسّسات العِلمية والفكرية ببيئة يمكن التحرّك فيها، وبما يسمح للبيئة العربية أن تتبادل معارفها وتُنتجها قبل ذلك بنِدّيةٍ وثقة بالنفس.

المساهمون