رواية "موت منظَّم" للمصريّ أحمد مجدي همّام، الصادرة عن دار "نوفل" اللبنانية (2021)، مفاجئة بقدر ما هي مألوفة. فنحن حتى بعد عقود من "رباعية الإسكندرانية" للورانس داريل، التي تتكلّم عن إسكندريةِ أجانب وأقلّيات، لا نجد أنّ الرواية المصرية الراهنة تنشغل كثيراً بهذا التعدّد وتلك الهوامش. ثلاثية نجيب محفوظ، على سبيل المثال، لا تكاد تمرّ على ذلك، فنحن لا نجد فيها إيطاليين وإنكليزيين ويهوداً. ليس الأمر نفسه في روايات إبراهيم عبد المجيد مثلاً. مع ذلك، تظلّ لرواية أحمد مجدي همّام فرادتها، فهي، دون سواها، تعود إلى أقلّية غامضة في تاريخ مصر، أقلّية قلّما نصادفها، حتى في أعمال مهتمّة بالأقليات، هي الأقلّية الأرمنية.
تبدأ رواية همّام ممّا يشبه الطرفة، فعبد الرحمن، الصحافي المصري، يصادف، في مخفر للشرطة، ماجدة التي تشتكي هناك من أنّ جارتها تنقل إليها طاقة سلبية. سيعرف عبد الرحمن أنّ ماجدة تلك أرمنية، وبحثاً عن موضوع صحافي، أو استجابة لهاجس صحافي، ينسى عبد الرحمن ما كان في المخفر لأجله، ويصطحب ماجدة إلى بيتها. من هنا تبدأ الرواية.
لن نتوقّف طويلاً عند نكتة الطاقة السلبية، فالأرجح أن الرواية نفسها تجاوزتها. ما بين ماجدة الأرمنية والسيّدة المسلمة المصرية أكثر من طاقة سلبية. بين الأرمنية وجيرانها المسلمين، ما بين أهل الحيّ الوادعين، ما يشبه المافيا العائلية التي تعيث فساداً ومخدّرات، بحيث لا تتأذّى من ذلك ماجدة وحدها، بل يلحق بها جيرانها الآخرون، بمن فيهم الصعايدة، الذين يغادرون الحيّ أو يعزمون على مغادرته.
تضعنا الرواية، في نهايتها، أمام نموذجين متضادّين لمصر
لكنّ الرواية ليست بالضبط هنا، مع أنّها تعود إليه مراراً. إنّها بالدرجة الأولى رواية الأرمن الذين شتتتهم مأساتهم في كلّ مكان، وبينهم مَن توجهوا إلى مصر. هؤلاء الأرمن الذين استقرّوا في مصر، بل هم هنا، بالدرجة الأولى، الأُسرة الأرمنية، التي تفرّقت في أمكنة شتّى من العالم، وبقيت، في ما بين أبنائها الموزّعين، صلات ومودة. لكنّ الذي يهمّنا هنا هي القلّة التي حلّت في مصر. الرواية تدخل إلى مصر عبرها.
لأرمن مصر خاصّية، نفهم من الرواية أنهم يمتازون بها عن بقية أرمن الشتات. هم، بخلاف الآخرين، لم يبنوا لأنفسهم غيتو، ولم ينفصلوا هكذا عن المجتمع المصري كما هي حال الأرمن في بلدان عربية أخرى، لبنان مثلاً. ميزتهم هنا أنهم اندمجوا في المجتمع المصري، بل اندمجوا أيضاً في المسيحيين المصريين. ماجدة، التي تروي شعراً لابن عربي، تَؤُمّ أيضاً الكنائس القبطية، التي لقيت مصرعها في عملية تفجير لواحدة منها.
عبد الرحمن، إلى جانب ماجدة، بطلا الرواية. عبد الرحمن صحافي، وسنزداد تعرّفاً بهذا الصحافي وصحافيّته، كلّما تقدّمنا في قراءة الرواية. الرواية التي تشمل، بالإضافة إلى الأرمن المصريين، مَن يمتّون إليهم في الشتات. أي أنها لا تشمل الشتات فحسب، بل أيضاً أرمينيا الحالية. الرواية تكاد تكون أرشيفاً لكلّ ذلك. عمل عبد الرحمن الصحافي يكاد يغطّي الرواية كلّها، التي تتحوّل إلى تحقيق واسع، إلى ريبورتاج يشمل تاريخ الشتات بنصٍّ يتعدّى أفراده إلى الأرمن الحاليين في الشتات، أو الباقين في أرمينيا نفسها.
لولا اسم المؤلّف الذي تظهر عربيّته، لخِلنا أنه أرمني. الرواية هكذا تكاد كلّها أن تكون عملاً صحافياً. بل هي، إذا قابلنا بين المسلم المصري عبد الرحمن، وماجدة الأرمنية، رواية مصر الحالية. المثال المصري لأحمد مجدي همّام، هو المثال الذي يندمج فيه المصري العادي، مهما كان مصدره. في المقابل هناك نموذجٌ مضاد، نموذج المتعصّب المسلم الذي يقوم بتفجير الكنائس. تفجير الكنسية في نهاية الرواية ذو رمزية واضحة، إنه مصر المغدورة المتعثّرة بمتعصبيها. مصر التي وجدناها في عبد الرحمن وماجدة هي مصر الأولى والأصلية، وليست تلك التي تنتهي بتفجير الكنائس. هناك مِصران، نموذجان لمصر، والسؤال: أيّهما يستولي على المستقبل...
* شاعر وروائي من لبنان