لا تكاد الثقافة العربية تغيب أسبوعاً عن الروزنامة الفنية والفكرية في فرنسا. إذ لا ينتهي مهرجانٌ، أو معرضٌ، أو حدثٌ مخصّص لمشهد من المشاهد الثقافية العربية، أو لشخصية من شخصياتها، حتى يتبعه حدثٌ آخر. هذه الأيامُ، على سبيل المثال، تشهدُ ثلاث فعالياتٍ كبرى: النسخة العاشرة من "مهرجان الفيلم الفرنسي العربي" (حتى 23 من تشرين الثاني/ نوفمبر) في نوازي لو سيك، قرب باريس؛ معرض "الكتابة هي الرسم" (حتى 12 شباط/ فبراير من العام المقبل) للفنانة اللبنانية ـ السورية الراحلة قبل أيام إيتيل عدنان، في فرع "مركز بومبيدو" بمدينة ميتز (شرق)؛ ومعرض "أنوار لبنان" في "معهد العالَم العربي" (حتى 2 كانون الثاني/ يناير من العام المقبل)، الذي يعطي نظرة شاملة على الفنون الجميلة في البلد منذ عام 1950.
وفي حين تشهد الأيام المقبلة عودة مهرجان "أرابوفولي" (باريس، بين 3 و12 كانون الأول/ ديسمبر المقبل)، الذي يجمع برنامجه بين الفكر والموسيقى والفنون البصرية، فإن الصحافة الثقافية الفرنسية قد انشغلت هذا العام بعددٍ لا بأس به من الأنشطة الكبرى المرتبطة بالعالم العربي، ولا سيما معرض "أيقونات: من أم كلثوم إلى داليدا"، الذي أحيا ذكرى العديد من نجمات الغناء العربي، والمعرض الاستعادي لأعمال الفنان المغربي فريد بلكاهية، الذي نظّمه، هذا الصيف، "مركز بومبيدو" في العاصمة الفرنسية.
على أنّ هذا الحضور العربي الكثيف، نسبياً، يسجّل غائباً شبه دائم: الكتاب. لا معرض كتاب عربيّ في هذا البلد الذي يضمّ، على الأغلب، أكبر جالية ناطقة بالعربية في أوروبا. أمّا الحيّ الخامس في باريس، الذي كان، حتى السنوات القليلة الماضية، فضاءً لما يمكن تسميته بـ"بالمكتبة العربية"، فقد بات اليوم شبه فارغٍ من مكتبات المبيع تلك. نقصٌ كبيرٌ تأتي بعض المبادرات المدنيّة لتسدّ جزءاً منه، على الهوامش غالباً، كما هو حال "معرض كتاب العالم العربي" الذي يُعقَد اليوم وغداً في مدينة نانسي (شرق)، بتنظيم من "جمعية التعاون الفرنسي السوري"، و"جمعية العمّال المغاربة في فرنسا"، و "بيت الشباب والثقافة ـ ليلبونّ".
يساعد الكِتاب على تكوين مساحة شخصية للإنسان في منفاه
لا يُخفي شريف حيدر، من "جمعية التعاون الفرنسي السوري"، أنّهم، كمنظّمين، "دخيلون" على عالَم الكتاب، وأنّ ما يدفع باحثاً مثله في الذكاء الصنعي، والعديد من المتطوّعين والهواة القائمين على الفعالية، إلى تنظيمها، هو إهمال الفاعلين العرب في فرنسا لهذا الحقل الثقافي.
يقول حيدر، في حديثٍ إلى "العربي الجديد": "نهدف من خلال المعرض إلى إعطاء صورة عن الفكر والكتابة العربيين، اللذين قلّما يُستَحضران في فرنسا. يوفّر الكتاب مساحةً حيوية ربّما تكون الأفضل كمكان للقاء بين الثقافات، بل حتى بين أبناء الثقافة الواحدة. كما أننى نسعى، بقدْر استطاعتنا بالطبع، إلى توفير عناوين عربية بما يمكّن المقيمين العرب في مدينة نانسي من قراءتها بلغتهم". كما يشير حيدر إلى دورٍ "عِلاجيّ" للكتاب العربي، خصوصاً لدى شريحة اللاجئين والمهاجرين التي تحضر بالمئات، وربّما بالآلاف، في نانسي وحدها.
"الكتاب من آخر ما يحمله اللاجئون معهم عند خروجهم من بلادهم. لطالما سمعت لاجئين يتحدّثون بحنين عن مكتباتهم التي تركوها وراءهم، في سورية أو غيرها من البلدان العربية. يمكن لعدد من العناوين أن تساعد لاجئاً على ترميم مكتبته، ومنها على استعادة شيء من حضوره السابق في مكان إقامته الجديد، على تكوين مساحةٍ شخصية له في منفاه"، يضيف حيدر.
بعد دورةٍ أولى أقيمت عام 2019 وتمحورت حول ثيمة الشعر العربي، يخصّص المعرض، الذي تحضتنه صالتا "بيت الشباب والثقافة ـ ليلبونّ"، دورته الحالية لأدب الطفل. دورةٌ يسعى المنظّمون إلى أن يتجاوزوا فيها عثرات الدورة الأولى، وإن كانوا مقتنعين ــ كما يقول حيدر ــ أن الطريق ما يزال طويلاً أمامهم للوصول إلى معرض احترافيّ وبارز إقليمياً. ولهذا السبب، فقد شاء المنظّمون دعوة عدد من الكتّاب والمثقّفين العرب، والفرنسيين المهتمّين بالثقافة العربية، ليشكّلوا ما يشبه اللجنة التي من شأنها التفكير بكيفية تطوير البفعالية في نُسَخِها القائمة. من أعضاء هذه اللجنة، الكاتبة العراقية إنعام كجه جي (التي ترأس أيضاً هذه النسخة الثانية من المعرض)، والكاتب اليمني حبيب عبد الرب سروري.
يشتمل برنامج المعرض، بشكل أساسي، على لقاءٍ يُعقَد عند الحادية عشرة من صباح اليوم مع عدد من الكتّاب والفنّانين المدعوين، وهم، إلى جانب كجه جي وسروري، جابر بكر، وستيفن دودا، ومعبد الحسّون، ووجدان ناصيف، وأليكسيا كيلسن، ويحيى الكفري. كما تُقام اليوم قراءات للأطفال بالعربية والفرنسية، يليها عرضٌ لفيلم "عطر العراق"، ثم حفل موسيقي؛ في حين يشهد الغد طاولة مستديرة حول تعليم اللغة العربية في فرنسا، تقدّمها الأكاديمية سيلفي شرايبي، والصحافي في جريدة "لوموند" الفرنسية، نبيل واكيم.