لا أحد من البشر إلّا وخبِر متعةَ اللغة، وهو يقع مصادفةً على كلمة ارتحلت من قوم إلى أقوام أخرى. مصادفة قد تتطوّر إلى نسبة ما من الرصد والانشغال. ولعلّه يقع على دلالة جديدة، أو مفردة دارجة فوجئ بأنها موصولة بجذر قديم، سواء في لغته الأم، أو الخالات اللواتي أقرضنه مفردات منذ آلاف السنين.
هذه تسع سنوات منذ انطلاق "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" رسمياً في أيار/ مايو 2013؛ سنوات مشروع شاقّ، وشيّق، وشائق وشائك، تحملها كلمات متجاورة، تقدّمها هنا وتؤخّرها هناك، أو تكون معاً الراحة الكبرى على جسر من التعب.
بيد أن لا أحد من القائمين على مشروع "معجم الدوحة" يحرّك وصف "شاقّ" بقافها المشدّدة من صدارتها، لجملة أسباب تقف جميعها وراء كلمة واحدة: المسؤولية. وهذه السنوات التسع ليست إلّا التاريخ الرسمي، وإنّ تذكير المفكّر العربي عزمي بشارة ــ في افتتاحه أعمال المؤتمر الثالث لـ"معجم الدوحة"، أمس الثلاثاء ــ بأن المعجم بدأ في 2011، يضيف عامين يمثّلان الجزء السرديّ العزيز من عمارة عِلمية ناهضة، بما فيهما من إرادة ورشح جبين، وشغف.
مَحاضر المجلس العلمي للمعجم ستُنشر قريباً، كما قال بشارة؛ ليس فقط بوصفها شهادة ميلاد تاريخية، بل أيضاً لأن مداولاتها في حدّ ذاتها تصلح مصدراً للدراسات المعجمية. والمعجم، بهذا المعنى، صاحب السبق في وضع منهج عمل هذا المشروع وخطّته وهيكله وتأليف متنه الرئيس وإطلاقه. وبما هو مسؤولية، فإن الأولوية التي يؤكّد عليها بشارة كانت وستبقى في عدم وجود حلول وسط أو تسويات تجاه عِلمية المنهج، وموثوقية المصادر، ودقّة المعالجة المعجمية، وسلامة التحرير، ومرجعية الاعتماد قبل النشر.
"معجم الدوحة" مؤلَّف تأليفاً وليس معدّاً إعداداً، يقول بشارة
هذا هو الإطار الحقوقي والأخلاقي لكلمة "السبق" مقرونةً بالمسؤولية، التي أكّدها المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات غير مرة، حتى لا يكون السبق مغرياً وشاغلاً عن أضخم مشروع معجمي تاريخي ينتظر أن يستكمل مرحلته الثانية في غضون أشهر قليلة، وصولاً إلى المرحلة الثالثة، التي توصف بالمفتوحة، والتي يستمر العمل فيها بشكل حثيث ومتأنّ ومدروس، لمراجعة ما أُنجز، ومن ثم مواصلة التأريخ ودراسة تطوّر الدلالات ونشوء الألفاظ الجديدة من القرن الخامس الهجري حتى اليوم.
مسؤولية تأصيل الألفاظ بسياقها العلمي والمعرفي الذي نشأت فيه وتطورت، فضلاً عن صلتها بمحيطها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي وصفته، وعبّرت عنه تاريخياً، تجعل المعجم مؤلَّفاً تأليفاً لا معدّاً إعداداً، وفق بشارة.
مع التقدير للجمع والإعداد، إلّا أن التأليف المعجميّ التاريخي حفرٌ عمودي في علاقات المعرفة اللغوية وطبقاتها، مارسه بجهد فردي ابن منظور معتمداً على معاجم سابقة، كما ذكر، في مداخلته أمس، رمزي منير بعلبكي، أستاذ كرسي "جُويت" للدراسات العربية في "الجامعة الأميركية في بيروت"، "إذ قال واضع لسان العرب، وربما لتواضعه، إن فضله يقتصر على الجمع. إنما فضله في توسيع الزُمر الدلالية".
على مدار يومين، قدّم ما يزيد على أربعين باحثاً أوراقهم. منهم علماء في المجلس العلمي للمعجم وخبراء مشاركون في تأليفه، وأساتذة من "معهد الدوحة للدراسات العليا" ومن جامعات عربية وغربية مختلفة وطلبة دكتوراه.
الحديث ذو شجون في التجارب المعجمية والنظائر الساميّة والتأثيل في المعجم، والمعجم والدلالة، والمعجم والقضايا اللسانية، والمعجم والبعد الحضاري، والمقارنات بين المعاجم.
ومن الحديث ما جال في الاقتراض اللغوي. هذا هو إبراهيم بن مراد، عضو المجلس العلمي لـ"معجم الدوحة"، يحدّثنا عن أن المعجم يثبت أن اللغة العربية لم تكن بدعاً بين اللغات في التعامل مع ظاهرة الاقتراض، بل كانت لغة مقترضة كما كانت لغة مُقرِضة، وهي ليست أمّ اللغات، وليست لغة آدم في الجنّة، وأن التعصّب الديني والمذهبي سبب في إضعاف دراسة الاقتراض خشية البحث فيها بعد أن كفّر بعض الفقهاء القول بوجود أعجميّ في القرآن.
مسؤولية تأصيل الألفاظ بسياقها العِلمي والمعرفي الذي نشأت فيه
كما يتحدّث محمد العبيدي، نائب المدير التنفيذي لـ"معجم الدوحة"، في السياق ذاته، قائلاً إن اقتراض الألفاظ لا يشكّل خطراً على اللغة إذا كان في الحدود المقبولة، ولا سيّما في الإطار المعجمي.
نسمع كثيراً في أوراق المؤتمر مصطلح "التأثيل" والذي يضيئه العبيدي هنا بالقول إنه "تأصيل الألفاظ الأعجمية، والمقصود بالأعجمية: أي التي تنتمي إلى لغات غير ساميّة. أمّا اللغات السامية فتعدّ أخوات ونظائر للغة العربية".
ذهبت أكثر من ورقة للبحث في تاريخية المعجم، ولعل أكثرها سخونة ورقة حسن حمزة، رئيس برنامج اللسانيات والمعجمية العربية في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، وهي بعنوان "فصل المقال بين البقّال والبدّال". انتقى المتحدّث مثالاً فاقعاً من "المعجم الوسيط" و"المعجم الكبير" لمجمع اللغة العربية في القاهرة، إذ يجري تعريف البقال بأنه "بائع البقول، والعامّة تطلق 'البقّال' على مَن يبيع المأكولات من كلّ شيء".
ولدى تعجبّه من عامّية "البقّال"، عاد حمزة إلى المعاجم القديمة فلم يجد مدخلاً فيها، ورجع إلى "معجم الدوحة" الذي تتوقّف مدونته في مرحلته الأولى عند عام 200 للهجرة، ليجد البقال في نصوص يعود أحدها إلى العام 82 للهجرة، بينما يشير أغلبها إلى أن "البقّال" يُطلق على صاحب دكّان يبيع مختلف الأشياء من أطعمة ومستلزمات الحياة اليومية.
إذن، لم يكن البقّال يبيع البقول إلّا في أوّل العهد به، ثم صار يبيع أطعمة أخرى، ومن ثم يبيع كلّ شيء. كل هذا يدفع بالباحث إلى خلاصة واحدة تفيد بأن المعاجم ليست المرجع الصالح للنظر في التأريخ للألفاظ العربية وتطور دلالاتها، وأن الاعتماد على المعاجم في صناعة معجم تاريخي، يصيبها في مقتل.