لسنوات، كان كثيرون من سكّان مدينة تونس يتنقّلون بين محطّات الراديو، في بيوتهم أو سياراتهم، فلا يعجبهم شيء، ثمّ يستقرّون عند الإذاعة الموسيقية "مسك"، فَراراً من بقية المحطات التي لا تهدأ فيها سجالات السياسة والمجتمع، وكثيراً ما تسقط في التهريج والتفاهة.
لم يعد ذلك ممكناً منذ يوم الأربعاء 19 كانون الثاني/ يناير الجاري، فقد أُعلِن إغلاق المحطّة الإذاعية. يومها، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي تدوينةَ أحد أشهر أصوات القناة، جيهان التركي، التي كتبت: "كان حلماً بإذاعة ثقافة وموسيقى، بدأناها بكثير من المحبّة وقد عرفنا الناس من خلال الموسيقى". وتضيف في نبرة جمعت بين السخرية والمرارة: "كثيرون أحبّوا "مسك"، كان تحدّياً أن يتابع الناس إذاعة ثقافية... لكنّ أهم حملة إشهارية قام بها مستمعو "مسك" كانت حين توقّف بثّها".
تأسّست "مسك" في صيف 2016 كأوّل إذاعة ثقافية خاصة في تونس، مقترحةً خطّاً سمعياً مختلفاً يضع المتابعين في أفق موسيقي غير استهلاكي، وكانت برامجها أيضاً محاولة للرفع من المستوى العام مقارنةً بما تقدّمه القنوات الإذاعية الأخرى.
ليس غريباً أن تتوقف القناة؛ الأغرب أنها استمرّت لخمس سنوات
خلقت هذه الخيارات هوية خاصة بالإذاعة، وإن اتُّهمت بالمبالغة في النخبوية أو التغريب الفنّي، حيث إن معظم المادّة الموسيقية المقترحة كان من الشمال، وإنْ كان ذلك منطقياً باعتبار أن نزعة التجريب تظهر في هذه المنطقة من العالم أكثر من المناطق القريبة من أُذن المستمع التونسي، ونحن نعرف حجم التلوّث الذي يطاول الموسيقى العربية اليوم.
فتَحَ إغلاق "مسك" ملفّات كثيرة، أبرزها تمويل المؤسّسات الإعلامية وهشاشة المشاريع الثقافية، كما عبّر كثيرون عن اعتقادهم بأن هذا المصير كان محتوماً، ليس لأسباب اقتصادية وتنظيمية فحسب، بل لأنّ الجمهور لم يكن مؤمناً ومقدِّراً للخدمة التي كانت تقدّمها "مسك"، فضلاً عن الجمهور الذي لم يلتفت إليها وهي ترفع راية موسيقى مختلفة عن السائد.
كثيرون قرأوا ما حدث باعتباره انتصاراً للرداءة الثقافية، فالإذاعات الخاصّة التي تقوم على تقديم الخدمات للسياسيين ورجال الأعمال ليست مهدّدة بذات المصير، وكذلك القنوات التي جعلت من البذاءة والكذب تجارةً مزدهرة.
في تدوينة لها، علّقت الإعلامية شيراز بن مراد على إغلاق "مسك" قائلةً: "في نفس اليوم الذي توقّفت فيه إذاعة "مسك" عن البثّ، فتح محلّ قِمار جديد أبوابَه بأحد أهمّ شوراع العاصمة، لينضاف لعشرات المحلّات من هذا النوع. اليوم تنطفئ شمعة ويحلّ مكانها الظلام. اليوم تخفت الموسيقى وتتعالى ثغثغة آلات الربح السريع وسرقة أحلام المغلوبين في بلد لم يعد يهدي الحلم".
حين نقف أمام صورة سوداوية كهذه لتونس، وفيها الكثير من الواقعية، لن يكون من الغريب أن تتوقف "مسك" عن البث، بل إن الأغرب أنها استمرّت في البثّ لخمس سنوات ونصف. بعدها، سيضطرّ مَن لا يحبّ البرامج الحوارية الصاخبة ونشرات الأخبار ومنوّعات التفاهة، أن يغلق الراديو...