تبدو رواية "مئة رعشة" للكاتبة اللبنانية رلى الجردي (1964) سجالاً بين من غادر البلد وبين من بقي فيه. لكنّه أكثر عمقاً من أن يكون سجالاً حوارياً، إنّه لقاءٌ لمصائر صنعها المكان، وباعدت بين أبطالها السنوات. فالحرب أنتجت ثقافتها مثلما أنتجَ المُغتَرَب ثقافتهُ، والرواية الصادرة عن "دار الآداب" (2021) تُخبرنا عمّا تفعله بنا الأوطان التي غادرناها. بين مشقّات الحنين والأمل يهرب الإنسان من وطنهِ، كي يعود، ومن ثمّ يعود، لكي يهرب مجدّداً، فالوطن تغيّر. والسجال بين الشخصيات تجسيدٌ لواقعية الهروب إلى أوطان بديلة. كما لو أنّ لبنان حَكم على مواطنيه بسيرةَ السلمون.
منذ الصفحات الأولى، تشير الجردي إلى كلّ ما صنع حياة دكتورة علم الأوبئة التي لم تنجز بحثها، وتوفّيت والدتها قبل أن تُنجز ابنتُها البحث وتحسّن وضعهم المادي. وكانت لمى قد غادرت لبنان كي تنجو من الفقر. هذا هروب عام. لكنّ هروباً خاصّاً أعطى الحكاية بريقها، وهو الهروب من الشغف.
تواجه لمى مخاوفها أثناء مقابلة العمل، وأشدّ تلك المخاوف هو الفقد - السِمة الملازمة لأشخاص يعيشون بين بلدين - بينما كانت تراقب عازف بيانو على الشاشة في المطعم، حيث تحدّثت عن أبحاثها غير المكتملة، اكتشفت في تلك اللحظة الحاسمة من حياتها المهنية مسارات فُقِدَتْ من حياتها؛ أبرزها العزف على البيانو، الذي كان التمسُّك بتعلّمهِ في قاع الفقر عندما كانت تعيش في طرابلس إفراطاً في الأمل. لكن بمرور السنوات صار التمسّك تخلّياً، فالأشياء التي صنعت لمى هي أشياء مفقودة. حتى أنّ الرواية برمتها تدور في زمنٍ مفقود. على الرغم من كونهِ زمناً واقعياً، إلّا أنّه آلَ إلى زمنٍ للآمال غير المحقّقة، وانتظار حدوث ما لا يحدث.
أنتجت الحرب ثقافتها مثلما أنتجَ المُغتَرَب ثقافتهُ
شهدت لمى إخفاق مشروع حياتها منذ كانت في لبنان، ما إن صارت تسعى لتحقيق مشاريع الآخرين مثل الأم التي أرادت أن تتخلّص من الفقر والعمل الصعب عن طريق نجاح ابنتها. عاشت لمى في منزل جدّها حتى عمر العاشرة، وقد ورثت عن الجدّ حبّها لطرابلس، الحبّ الأشبه باستدعاء المفقودين. هذا حبٌّ مفهوم في بلدٍ تنتهي فيهِ حرب، لتبدأ حرب أُخرى. حتى أنّ الفضاء الذي تدور فيهِ الأحداث هو فضاء لعقائد متصارعة. تتحدّث الجردي عن تيارَين لبنانيَّين ضمن المجتمع الإسلامي؛ هما الصوفية والسلفيّة الجهادية. شيخ الفرقة الصوفية أرمني اعتنق الإسلام، مطرود من الكنيسة في حلب، واسمه مارديروس.
في المقابل حملت العائلات العائدة من السعودية معها تغيّرات خلال سنوات الستينيات والسبعينيات. بالتالي، يظهر في الرواية لبنان الذي نعرفه، أرضاً لصراعات الآخرين. والجردي على ضوء ذلك، تتحدّث عن سيّدة لبنانية غادرت بلداً ليس لها... أمّا الجَدّ المرح، فمن جرّاء مواجهته ثقافة التشدّد بالسخرية صار قبل أن ينتهي القرن العشرون رجلاً عصبي المزاج. التغيُّر الذي أصاب بنية الشخصية كان بسبب تغيُّرات في أحوال المدينة، بذلك نسجت الكاتبة اللبنانية ببراعة مصير الناس من مصائر مدنهم.
عندما تخسر لمى فرصتها في هارتفورد تبدأ صراعاتها التي تنتمي إلى الزمن اللبناني بالظهور في داخلها، بعودة ذلك الشعور بالخيبة الأليفة إليها، تبحث عن اسم العازف الذي كان يعزف أثناء مقابلة العمل. وكانت قد تبلورت حاجتُها إلى أن تتعلّم الموسيقى في جوّ قاتم في لبنان؛ فأصوات العزف كانت تخرج من بيت الجد شيخ الطريقة الوجدية، وتتردّد أصداؤه بين بيوت السلفيّين. وكان اعتراف زياد لها بحبّهِ ما دفعها إلى الزواج منه، والسفر برفقتهِ إلى فيلادلفيا. لكن بفشلها في المقابلة تظهر علاقات جديدة تعيد صلتها بالماضي.
تلتقي لمى مع يوسكا الذي خرج من المنزل الذي تستأجره في ألنتاون، ليصير عازفاً. فيما هي وصلت إلى المنزل مستأجرة في مدينة جديدة وبلد جديد بعدما فرغت من الموسيقى. من خلال تقاطعات من هذا النوع، في لحظات تغيّر الأقدار، تبني الجردي حكايتها. تقارن لمى لقاءها مع يوسكا بلقاء جدّها بمرشدهِ للطريقة الوجدية مارديروس. ثمّ تبني صورة تجمع يوسكا بمارديروس، كلاهما كان يسعى لشفاء الإنسان، أحدهما بالموسيقى وآخر بالحبّ. كما يجمع لمى مع يوسكا إلى جانب الموسيقى، تعلّم العربية والتصوّف الذي ليوسكا تاريخٌ معه في مصر. يقرآن لنجم الدين كبرى، يتدرّبان على العزف.
وفي هذا الفضاء المسروق، يعود الحبّ ليشغل لمى مجدّداً. لكنها الآن امرأة متزوّجة توشك أن تخوض علاقة غرامية مع رجل تخلّت زوجته عنه لأجل رجلٍ آخر، فيما كان زوجها زياد يعيشُ قصة عاطفية في تنزانيا بعيداً عنها. يتّضح في تشابك العلاقات المعقد الحاجةُ إلى الحبّ الأول البسيط، وعودة لمى الحتمية إليهِ. لكنّه حبّ غادر، كما تنقله الكاتبة اللبنانية. إذ يحضر الحبّ الأول ضمن تعقيد العالم، بذات إشراقات الصوفية ضمن عنف العقائد. تبحث لمى عمّا يوقظ روحها، وعنوان الرواية تعبير من تعابير كثيرة تشير إلى العودة إلى الإحساس الأول، ومحاولة إعادة خلقهِ بصورة أبدية، لكن هل هذا ممكن؟
تتركُ مسألة إحياء الماضي إلى مصادفات الواقع اللبناني
تتركُ الجردي مسألة إحياء الماضي إلى مصادفات الواقع اللبناني، وهنا يبرز تدخّل جديد للمكان في صياغة الشخصيات، فلبنان صنع من بطل قصتها الأولى جلال مجرّد خاطف. أراد جلال أن يتزوّج من لمى عنوةً، مستخدماً الشريعة الإسلامية وسطوته كمتزعّم لتنظيم مسلّح، وكان جزءاً من المعارك ضدّ الجيش اللبناني في باب التبّانة.
إن كانت نهاية الرواية تحمل تدخّلاً في عفوية الحكاية، وذلك بتحويل العاشق إلى خاطف، إلا أنّه تدخّل يقود إلى مقاصد الفنّ، إذ تغلق الكاتبة الحبكة مِن حيثُ بدأت. العودة أيضاً كانت تستدعي هروباً جديداً، واللذة القديمة ضربٌ من ضروب الخيال. في ارتداد لمى إلى الحبّ الأول الغادر، مثل الأوطان التي أرهقتها الصراعات، تعرض صاحبة "في علبة الضوء" مصير العاشق الذي فتنته أوهامه ومن ثمّ فتكت به، فيما بقيت الفنون ملجأ الإنسان كلّما عَزّت عليهِ الملاجئ.
"أسمع الآن صلاة البيانو التي علّمني إيّاها يوسكا، الصّلاة التي توحّدنا جميعاً، تنقذنا من الدّمار. أغمض عينيّ لأستعيد كلماته هذه؛ أستطيع أن أصف كلّ ما أدّيته وعزفته بكلمة واحدة. إنّه كان ترتيلة".
* كاتب من سورية