حين وصل زين العابدين بن علي للحكم في 1987، راج مصطلح "مناطق الظلّ"، وهو تعبير كان ينتقد من خلاله سياسات سلفه الحبيب بورقيبة الذي رعت السياسات التنموية للدولة خلال حكمه الطويل من (1957 إلى 1987) مدن الشريط الساحلي على حساب بقية البلاد. غير أن "ثورة 2011" أثبتت أن حصيلة بن علي (23 عاماً من الحكم) التنموية لم تكن أفضل من سلفه، فقد ترك "مناطق الظل" على حالها تقريباً.
ضمن خطاب السياسات التنموية، كثيراً ما قيل بأن المدرسة التونسية هي "مفخرة دولة الاستقلال"، لكن ذلك لم يكن يعني سوى بضع مدن، فحال مؤسسات التعليم في أغلب الأرياف التونسية كارثيّ، بدءاً من عدم توفر وسائل نَقلٍ تُقِلّ الأطفال إلى مدارسهم، وصولاً لفقر المعدّات وأحياناً يوجد نقص في عدد المعلّمين.
منذ 2011، ظهرت مبادرات كثيرة لتطوير وضع المدارس في الأرياف، كان معظمها ينطلق من مبادرات شخصية لمثقفين (كتّاب وسياسيين) يعودون إلى مدارس نهلوا منها العلم في صباهم، غير أن هذه التجارب تكون عادة مجموعة من الإهداءات العينية أو أنشطة تحفيزية سرعان ما تذوي، وهو ما دفع إلى التفكير في مأسستها.
منذ 2019، أطلقت "الجامعة الوطنية لجمعيات أحباء المكتبة والكتاب"، بالتعاون مع وزارة الثقافة، مشروع "لَبِنات" الذي يهدف إلى تأثيث مكتبة في كل مدرسة ريفية في تونس. مشروع سرعان ما أجهضته الجائحة بما فرضته من إغلاق للمدارس وتوقّف لكثير من المبادرات الثقافية.
مئات المدارس الأخرى تنتظر المشروع وتخشى أن يتوقف قبل أن يصلها
مؤخراً، أعلنت "الجامعة الوطنية لجمعيات أحباء المكتبة والكتاب" عن العودة إلى مشروع "لَبِنات"، تحديداً في الأرياف القريبة من مدينة صفاقس (الجنوب الشرقي) في تجربة أولى سيجري العمل على تعميمها بالتدريج.
بحسب بيان الجامعة: "يرمي المشروع إلى إرساء نواة مكتبة في كل مدرسة ريفية لتقريب الكتاب من الناشئة وترسيخ ثقافة القراءة للجميع، في ظل ارتفاع أسعار الكتب وتكلفتها وافتقار الأوساط الريفية لفضاءات تثقيفية وترفيهية عمومية من شأنها أن توفر للأطفال إمكانية المطالعة والإبداع في مجالات الثقافة والأدب والفكر".
يتضمّن البرنامج الأوّلي من التجربة إنشاء نواة مكتبة في كل من "مدرسة فايض العتيل"، و"المدرسة الابتدائية بالقندول"، و"المدرسة الابتدائية حمادة أولاد الحاج موسى" بأرياف صفاقس، وقد تمّ تزويد المدارس الثلاث بما يزيد عن 1500 عنوان من القصص والمجلات والقواميس.
مئات المدارس الأخرى تنتظر وصول "لَبِنات" إليها، وهي بلا شكّ تخشى أن يضيع المشروع قبل أن يبلغها، وكم من المشاريع قد انتهت بعد أن انفضّ المشاركون في حفلات التدشين والتُقطت صُوَر وضع "اللّبنة" الأولى. وفي الحقيقة، فإن المشروع لا يبدو أنه يمتلك مقوّمات النجاح على مدى طويل في حال لم يُحط نفسه بدفع أبعد من مساعدات وزارة الثقافة، وما لم يضع إلى جانبه المبادرات المتناثرة للمثقفين، وهم يبحثون عادة عن مشاريع تَنظُم جهودهم، وقبل كل شيء توفير روح تبرّع من قبل الناشرين والموزّعين، فحضور الكتاب في المدارس قد يسقي أرضاً جافة ستعود ثمارها على هؤلاء لو أينعت.